استسلام.. لا سلام!

د. أحمد ديركي:

تبقى فلسطين بوصلة النضال، بوصلة النضال لكل شيوعي أينما وجد في العالم، ولكل من يحمل قضية التحرر بغض النظر عن كل الفروقات ما بين الشعوب، سواء كانت فروقات دينية أو عرقية أو مناطقية أو غير ذلك.

يعود السبب في كونها بوصلة النضال، وتحديداً لشيوعيي العالم، لأنها دولة محتلة من قبل كيان غاصب، احتل الأرض وشرّد الشعب وحرم من بقي فيها من حقوقه، وأقام كياناً عنصرياً غريباً فوق أرض فلسطين، بدعم دولي، بل وإقليمي وعربي أيضاً. وقد صدق من قال في توصيفه للكيان الصهيوني على أنه (آخر كيان عنصري) في التاريخ الحديث.

نعم، فلسطين بوصلة النضال العالمي.

لقد ناضل الشعب الفلسطيني، وناضلت معه كل الشعوب في سبيل تحرير فلسطين من هذا الكيان، واستعادة حقوقه المشروعة، وحقق نضالهم مكاسب جمة ما جعل من القضية الفلسطينية قضية عالمية تدعمها كل الشعوب، وبخاصة كل من يحمل فكراً تحررياً، كما دعمتها بعض الأنظمة السياسية الحاملة لهذا الفكر التحرري. وقد تجسد، في حينها، الفعل المقاوم المسلحة بالأيقونة الفدائية النضالية، وأصبح يشبه أيقونة غيفارا الثورية.

إلا أن الكيان الصهيوني استطاع الصمود في مواجهة العمل الفدائي والسياسي المؤيد له، وتعود أسباب صموده، لا لضعف العمل الفدائي وتفوق الكيان، بل لأسباب متعددة ومن أبرزها أن الكيان مدعوم سياسياً واقتصادياً من قبل القطب الأمريكي ومعظم الأنظمة السياسية، إن لم يكن كلها، في العالم التي تدور في فلكه. بينما العمل الفدائي كان مدعوماً بالدرجة الأولى من كل من يحمل فكراً تحررياً إضافة إلى قطب عالمي، في حينها، الاتحاد السوفياتي وبعض الأنظمة التي تدور في فلكه.

تفكك الاتحاد السوفياتي واستفردت الولايات المتحدة الأميركية بالعالم، وأصبح العالم (أحاديّ القطب)، فأثر هذا سلباً على القضية الفلسطينية والعمل الفدائي. فضرب القطب العالمي العمل الفدائي والسياسي الداعم له في الصميم، في سبيل تحقيق مصالحه الاستعمارية، على اعتبار أن الكيان يمثل رأس حربته الاستعمارية في المنطقة، وكان الاجتياح الصهيوني في عام 1982 لبيروت، وارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا وتسفير الفدائيين إلى خارج لبنان، كان الضربة (القاضية) لأممية النضال ووطنيته.

جرت الضربة (القاضية) بموافقة عالمية وإقليمية وعربية، واغتيل العمل الفدائي والمقاومة الوطنية وتقلص دور الأحزاب الشيوعية والتقدمية في الفعل المقاوم والسياسي إلى حد شبه الانعدام.

خلال هذه المرحلة كان البديل يتجهز، فخلقت القوى الدينية والأحزاب الدينية والطائفية لتحل محل القوى الشيوعية والتقدمية في الفعل المقاوم الأممي والوطني التحرري لفلسطين، فتحول هذا النضال عبر هذه الاحزاب الدينية والطائفية إلى نضال “ديني” محدود ببقعة جغرافية محددة. وبهذا خسرت القضية الفلسطينية موقعها الأممي، وتحولت وكأنها قضية تخص بقعة جغرافية محددة وديناً محدداً، وجرى تصويرها وكأنها (صراع أديان) لا صراعاً تحررياً من محتل غاصب للأرض وطارد للشعب.

حدث هذا لتغير موازين القوى العالمية، وتغيرها انعكس بشكل مباشر على القضية الفلسطينية معطياً إياها شكلها (الجديد) الزائف، وضُخّم دور الأحزاب الدينية والطائفية في عملية الصراع مع الكيان الصهيوني، لتظهر هذه الأحزاب وكأنها الأحزاب الوحيدة (المناضلة) لتحرير فلسطين بمفهومها الديني، وطُمس دور النضال الأممي التحرري، ويُعمل على استكمال طمس هذا الدور عبر كل الوسائل الممكنة. وقد يكون من أبرز معالم الطمس اختفاء كلمة (فدائي) من قاموس المقاومة.

وبهذا تحررت الأنظمة السياسية التابعة للولايات المتحدة الأمريكية من القضية الفلسطينية باعتبارها قضية أممية تحررية لتصبح مجرد قضية تعني فقط الفلسطينيين! وكرّت سبحة الاتفاقات مع هذا الكيان.

ومن خلال تتبّع مسار الصراع مع الكيان الصهيوني، يبدو أن مصلحة الأنظمة العربية الحفاظ على هذا الكيان لأن تحرير فلسطين يمثل تهديد مباشر لها.

وقد تجسدت التبعية الكاملة للولايات المتحدة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، واستهلت (اتفاقيات السلام) مع الكيان الصهيوني عندما قامت منظمة التحرير الفلسطينية بالتوقيع على اتفاقية إعلان المبادئ مع الكيان عام 1993، ومن بعدها كرت سبحة الاتفاقيات معه. وحالياً تغير الشكل من (اتفاقيات سلام) إلى (تطبيع) وجميعها تجري برعاية أمريكية، وهي الداعم الأول للكيان الصهيوني!

كل (اتفاقيات السلام) التي وقّعت و(التطبيع) هي استسلام لا سلام، فقد اعترفت هذه الأنظمة العربية بالكيان الصهيوني وشرعنت وجوده مانحة إياه الغطاء العربي، إضافة إلى الدولي، لاستكمال احتلال ما تبقى من فلسطين وطرد شعبها. أيْ لقد أطلقت له العنان لاستكمال أعماله الاحتلالية والعدوانية داخل فلسطين وليستمتع بالتجول والاستجمام في الدول العربية (المطبعة) معه. كل هذا من دون أدنى تنازل منه. ياله من استسلام مذلّ تحت مسمّى (السلام) دون مقابل الأرض!

العدد 1102 - 03/4/2024