الطفل السوري.. ومأزق المستقبل!

يونس صالح:

ماذا يفعل الأطفال في بلادنا، والسماء فوقهم بهذا الانخفاض؟ كيف يمكن أن يرفعوا رؤوسهم بكامل قاماتها؟ وكيف يمكن أن يتأملوا الآفاق البعيدة دون فضاء رحب يتيح لهم الانطلاق؟

الأطفال السوريون محاصرون، ولأنهم مادة المستقبل فإن هذا يعني أن المستقبل السوري كله محاصر، مساحة الإبداع فيه ضيقة، والقدر المتاح للابتكار معدوم تقريباً، فمن المسؤول عن هذا؟

إن مسؤولية الحصار الذي يعيشه الأطفال عندنا موزعة على جهات عدة، وعلى رأسها نظام الأسرة، والمؤسسة التعليمية، والمؤسسات الثقافية والإعلامية، والواقع الاقتصادي، وتلك الهوة من التخلف التي نعيش فيها والتي ارتضيناها لأنفسنا كأنها قدر محتوم.

يولد الطفل السوري بالدرجة نفسها من الذكاء التي يولد بها الطفل في العالم، ويمر مثله بمراحل النمو المختلفة، حتى تبدأ سنوات التفاعل بينه وبين البيئة التي تحيط به، عند هذا المنحى يبدأ الافتراق الخطر، فيواصل الطفل الغربي مثلاً مراحل نموه النفسي والبدني، وتتهيأ له كل ظروف الإبداع، إن كان ثمة بذور إبداعية في داخله، بينما يتوقف منحنى الطفل السوري أو ينحو إلى الانحدار، وهو إما أن يعاني موت بذور الإبداع والتجديد في داخله، أو أن عليه أن يمتلك روح المحارب، حتى يستطيع فقط أن يبقى طافياً فوق السطح دون أن يكون مهدداً بالغرق. ولعل هذا يفسر لنا نماذج العلماء السوريين المبدعين الذين وجدوا منفذاً للهرب من تحت هذه السماء الواطئة، فرفعوا قاماتهم وحلقوا عالياً في سماء الإبداع خارج وطنهم.

التخلف ليس إحدى سمات الشخصية السورية بالتأكيد، ولكنه واقع يفرض نفسه علينا ونرضى به يأساً وقنوطاً في أغلب الأحيان، ويتوارثه الأطفال منا ضمن ما يتوارثونه من فضائلنا السامية، فما العمل؟ وإلى متى يبقى الطفل السوري مبدعاً في الخارج، عاجزاً في الداخل؟ وكيف يمكن لنا أن نرفع قليلاً ذلك السقف الذي يواصل الانخفاض فوق رؤوس أطفالنا؟

علينا أن نعي أن الطفل السوري هو ثروة البلاد الحقيقية، ولكن لا يتم إدراك أهميتها للأسف، فالغالبية العظمى من الأطفال السوريين يعيشون بلا طفولة حقيقية، ويشيخون قبل الأوان. إنهم ضحايا الفقر الذي يحرمهم حقهم في التعليم ويلقيهم مبكراً إلى أسواق العمل، وحتى الذين تتاح لهم فرصة التعلم والرقي يقعون ضحايا النظم التعليمية المتخلفة، التي تقتل ما في داخلهم من إبداع، وتزرع فيهم الخوف والريبة من الحياة الدنيا.

يرى أينشتاين أن التعليم بشكله النظامي يعيق ظهور العبقرية، فهذه النبتة الصغيرة في روح كل طفل في حاجة إلى الحرية، وإلى إشباع حب الاستطلاع المقدس، ولكن أساليب التعليم الرسمية لا تتعزز إلا من خلال وسائل القهر والشعور بالواجب. تُرى ماذا سيقول أينشتاين عن نظامنا التعليمي الذي لا يخنق الحرية فقط، ولكنه يقتلها؟ إنه نظام يعتمد على الحشو والتلقين لمناهج قديمة، يكتب معظمها موظفون رسميون، وهي أيضاً تفتقد أي بعد يربطها بالواقع الاجتماعي والثقافي.. إنه نظام تعليمي يصلح لتربية أي شيء، إلا الذوات المتفردة.. إنه يركز على تلقينهم فضيلة الخضوع، وينزع من داخلهم ملكات النقد والتحليل، ويخلق منهم مجموعة من الموظفين الخاضعين لكل ما يتلقونه أو يلقى عليهم من أوامر. أما الأسرة السورية فليست أفضل حالاً، فهي قليلة الإمكانات ومحدودة الحركة، فلا توجد مؤسسات تساعدها ولا قوانين تحميها اقتصادياً أو سياسياً، وبالتالي تكون عديمة الفاعلية في أحيان كثيرة، ولا تستطيع أن توفر لأفرادها أي نوع من الحماية، والأرقام التي تنشر عن الأطفال السوريين تثير الفزع، وهناك أطفال صغار يعولون أسراً كاملة في الأرياف السورية.

لم تعد تربية الطفل كذلك تقتصر على الأسرة أو المؤسسة التعليمية فقط، ولكن التكنولوجيا الحديثة وما أنتجته من أجهزة باهرة أصبح نصيبها في تربية الطفل هو النصيب الأوفر. لقد أصبح الطفل متأثراً بما تقدمه برامج التلفزيون، وتقول الإحصائيات إن الطفل الذي يشاهد التلفزيون ثلاث ساعات يومياً يكون قد شاهد وهو قبل سن الثانية عشرة مئات الجرائم ومشاهد العنف.

خلاصة القول.. إننا أمام واقع يضيّق الخناق لا على الطفل المبدع فقط، ولكنه أيضاً لا يتيح للأطفال العاديين أن يأخذوا نصيبهم العادل من خبرات الطفولة، والمؤسسة التعليمية تتحمل عبئاً كبيراً في هذه المسؤولية. لقد انتهت نظرية الطفل المبدع بالفطرة، فقد تبين أن الإبداع يمكن تكوينه وتطويره. إننا كسوريين نقف اليوم أمام مأزق لا وقت للانتظار فيه أكثر مما انتظرنا، إن مستقبلنا كشعب مرتبط عضوياً بمدى ما ننجح فيه من وضع أطفالنا على الطريق القويم، وأن نؤمن بأن حقوق الأطفال قبل حقوق الآباء والمسؤولين.

 

العدد 1102 - 03/4/2024