الحرية شرط الإبداع وتربته الخصبة
إيمان أحمد ونوس:
لا شكّ أن جميع البشر يملكون الخصائص العقلية والفكرية المتشابهة التي تساعدهم على النهوض بالحياة وبأنفسهم، غير أن البعض يتميّز بقوى وإمكانات مختلفة أو مُخالفة للسائد في أي مجتمع، وذلك تبعاً للبيئة الاجتماعية المحيطة ابتداءً من الأسرة وصولاً إلى التجمعات الأخرى التي ينتمي إليها الإنسان. وهذا التميّز بالتأكيد نابع من عوامل ذاتية تتعلق بالقدرات الشخصية من جهة، وعوامل أخرى محيطة من جهة ثانية، ذلك أن لا تميّز بلا ملكات خاصة، مثلما لا تميّز بلا مناخ يدعم ويساعد وينمي هذه الملكات التي تحتاج إلى الكثير من الاهتمام والرعاية والعطاء غير المحدود لكل الاحتياجات المطلوبة للاستمرار وصولاً إلى الإبداع والخلق المُتجدّد.
وغالباً ما تظهر أولى علائم التميّز أو الإبداع في مراحل الطفولة المبكّرة التي لا يرصدها أو يتنبأ بها سوى آباء أو مربون تقوم أُسُس التربية لديهم على ثقافة تربوية مرتكزة إلى منطق علمي قائمة على الاعتراف الحقيقي بقيمة الطفل واحترام رأيه وما يبديه من اختلاف في التفكير ربما عن أقرانه أو حتى إخوته، ومن ثمّ القدرة على منح الطفل الحرية المطلوبة لإبراز ما لديه من مواهب كامنة تحتاج وبكل تأكيد إلى الحب والتفهّم والاحتضان أو القبول غير المشروط لكل ما يصدر عنه، إضافة إلى تقديم الاحتياجات المادية التي يتطلبها هذا التميّز، ذلك أن الطفولة أهم مرحلة من مراحل عمر الإنسان، فهي المرحلة التي يتشرّب خلالها الفكر والعقل كل ما يفدهما من مفاهيم ومعلومات تؤهّل الطفل مستقبلاً لتأسيس آلية التفكير والتعاطي مع الحياة بعيداً عن كل المفاهيم والقيم البالية وعن كل مناحي التسلّط العشوائي الذي يغتال كل إمكانية للذهن بالانفتاح والابتعاد عن الخرافات والأوهام التي ما زالت مُعشّشة في العقول.
يقول واطسون أحد زعماء المدرسة السلوكية: (بإمكاننا أن نقوي شخصية الطفل أو نحطمها قبل سن الخامسة).
بالتأكيد ما ينطبق على الطفل في الأسرة والمدرسة، ينطبق على باقي الفئات، خاصة الشباب الذين يبدون بعض التمرّد على السائد من القيم والمفاهيم التي لا يرون فيها ما يخدم رؤاهم وتطلعاتهم المنفتحة للحياة، والذين يصطدمون ويُصدمون ولا شكّ بالقوى والذهنيات الدينية والسياسية والاجتماعية الرافضة، أو المعرقلة والمُقيّدة لأفكارهم، فيعلقون بأسلاكها الشائكة التي تعمل على تمزيق التجديد المنشود خشية اهتزاز مفاهيمها وقيمها المتجذّرة والمُسيطرة منذ آلاف السنين. وهذا ما ظهر جليّاً في الماضي حين كان الشباب يهاجرون أو يوفَدون طلباً للعلم أو العمل في بلدان ومجتمعات مختلفة، فقد نبغ كثيرون منهم حين تهيأت لهم المناخات المناسبة القائمة على الحرية وتقدير المواهب والإبداع، بل ومدّ يد العون لكل ما تحتاجه هذه الكفاءات. واليوم، ومنذ أن بدأت التغريبة السورية خلال سنوات الجمر والحرب وما زالت، استمرت ظاهرة التميّز والإبداع السوري التي لا تنفكّ وسائل التواصل والإعلام بكل اتجاهاتها ترصدها في بلدان الاغتراب ومخيّمات اللجوء، إبداع ليس بالجديد على السوري منذ أن وُجِد على هذه الأرض، لكنه كان مقيّداً بالقمع ومُحاطاً بهالة الخوف والتخويف، ورفض التجديد حتى على مستوى التعليم ومنهجيته التقليدية الببغاوية التي لا يمكنها بأي حالٍ الكشف عن تلك المواهب إلاّ فيما ندر، ليكون حكماً مصيرها التجاهل والإهمال العمد في غالب الأوقات.
يقودنا هذا الواقع والحال بالتأكيد إلى أن السوريين عموماً سواء بالداخل أو الخارج لا تنقصهم القدرات الإبداعية التي ظهرت جليّة في قدرتهم عل الاستمرار في التصدي لكل ما فعلته الحرب وتُجّارها وساستها في محاولة لخنق روح الحياة والعطاء لديهم، لاسيما أولئك الذين لا يزالون في الداخل يصارعون ويبتكرون في كل صباح وسيلة تبقيهم على قيد حياة. ما ينقص السوري هو الحرية بكل أشكالها بعيداً عن التعصّب الفكري والديني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يسمح لنفسه ما يمنعه عن غيره، فالواقع الموجود يفترض ويفرض على الحكومات أن يتغيّر وتتغيّر سياساتها باتجاه تفعيل المبادرات الإبداعية التي تنطلق هنا وهناك، خاصة في مرحلة إعادة البناء وترميم ما خلفته الحرب العبثية تلك، لأن سورية والسوريين أحوج ما يكون إليها في ظروفنا المعقدّة والقاسية في مختلف النواحي. وهذا بالتأكيد يمكن أن يتحقق في ظلّ دولة وطنية مدنية علمانية مستندة لدستور يحترم الجميع ويساوي بينهم في الحقوق والواجبات، وقبل كل هذا يؤكّد ويُعزز أهمية وضرورة الإبداع والابتكار خدمة للوطن والمواطن من أجل الارتقاء بسورية التي تستحق الصدارة مثلما استحقتها في أزمانٍ سالفة.