الجسد كمرآة للثقافة المجتمعية*
عهد بيرقدار:
تؤثر الثقافة التي ننشأ في إطارها على نمط تفكيرنا وتعاملنا مع الأشياء والأشخاص من حولنا، لكن هل تساءلت يوماً عن أثر هذه الثقافة على أجسادنا؟! وهل نتعاطى نحن البشر بردود فعل جسدية مختلفة تجاه فعل ما تبعاً لاختلاف مجتمعاتنا؟ وهل يمكن لنا أن نتعلم التقنية الأمثل للقيام بحركات معينة؟
كانت هذه الأسئلة شاغلاً مهمّاً لعقول علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع الذين أجروا دراسات متعددة لفهم علاقة الجسد بالثقافات المجتمعية المختلفة. ولو حاولنا نحن كأفراد الانتباه لحركة أجساد الأشخاص الذين يعيشون في مناطق ثقافية مختلفة عنا، فلربما أثارَ انتباهَنا امتلاكُهم لعاداتٍ جسدية مختلفة أيضاً. فعلى سبيل المثال إذا قمتَ بنزهة في الطبيعة مع أشخاص من مناطق ثقافية مختلفة فستلاحظ أن كل شخص منهم سيجلس على الأرض بطريقة مغايرة عن الآخر. فمنهم من يكون قادراً على الجلوس بمرونة ومن غير توتر، ومنهم من يجلس بطريقة أشبه بالتسطيحة، ومنهم من يبقى عاجزاً عن الجلوس على الأرض. فكيف إذاً تعلّم كلٌّ من هؤلاء الجلوس بطريقة مختلفة؟ وهل هذا الأمر فردي أم يمكننا أن نعزوه إلى اختلاف ثقافاتهم.
دعونا نلقي نظرة مركزة على دراسة (تقنيات الجسد) لمارسيل موس، الذي قدم ضمنها دراسة ميدانية وأكاديمية مفصلة لأهم تقنيات الجسد المختلفة، وقسمها بشكل رئيسي إلى التقنيات الفردية البيولوجية التي تختلف حسب العمر والجنس، والتقنيات المكتسبة ثقافياً التي تختلف حسب المجتمع والممارسة.
يعتبر عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا الفرنسي مارسيل موس من أشهر العلماء الذين خصصوا جهداً ووقتاً للدراسات الاجتماعية والاقتصادية، وقدمَ أعظم الكتب التي تناقش أفكاراً اقتصادية واجتماعية ودينية وغيرها. وتوجد له دراسات عديدة في شتى التخصصات السابقة، لكن ما سنناقشه في هذه المقالة هو الجسد والثقافة تبعاً لدراسة موس (تقنيات الجسد) التي نشرت عام 1973م، والتي قدم ضمنها دراسة مفصلة عن تقنيات حركات الجسد وتقسيماتها بين بيولوجية طبيعية وثقافية مكتسبة.
من أهم اعتقادات موس أنَّه لفهم المجتمع والإنسان علينا أن ندرس علاقة الإنسان بنفسه وبمجتمعه لتشكيل فهم أوسع حول الفردي والجماعي وكيف يتلاقيان معاً. لذلك توجّه موس في (تقنيات الجسد) إلى دراسة الجسد بوصفه الحامل الأول للمعاني الاجتماعية، واعتقد أن حركاته المختلفة تعبر بنسبة كبيرة عن ثقافة صاحبه. وأكد أن هذه المهارات الجسدية (التقنية) لا تتعلق بالجسد وحده أي بالطبيعة البيولوجية للإنسان، وإنما ترتبط أيضاً بطريقة تعلم هذه المهارات ضمن المجتمعات المختلفة أي بالطريقة الثقافية التي يحيا بها. كما أكد أنه لفهم الفرد وعلاقته المتبادلة بمجتمعه علينا أن نفهم ما هو الفرق بين الطبيعي والثقافي في حركات جسده.
لذلك نجد أن موس يقدم ضمن هذه الدراسة تفسيراً مفصلاً حول رؤيته وأفكاره فيما يتعلق بحركات الجسد. فهو يعتقد أن الجسد هو الأداة التقنية والتعبيرية الأولى التي امتلكها الإنسان، ومن خلال الجسد يستطيع الفرد أن يعبر عن نمط أفكاره وحالته النفسية وعاداته المجتمعية. ويعتقد أيضاً أنَّ الفرد يمتلك العديد من (تقنيات الجسد المتنوعة)، وأن هذه التقنيات هي عبارة عن رموز يمكن فك شيفراتها عبر الدراسة المنهجية لها والفهم المسبق للشروط التي تسببها.
من المهم بالنسبة لِـ موس أن يدرك القارئ أن مفهوم (متنوعة) الذي أطلقه على تقنيات الجسد هو أنْ نفهم أنَّ الإنسان الواحد يمتلك الكثير من تقنيات الجسد، وأنَّ هذه التقنيات نفسها تختلف من شخص إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر. وأنَّ دراسة تقنيات الجسد المتنوعة التي يمتلكها الإنسان تشترط وجهة نظر ثلاثية الأبعاد ودراسة مفصلة للرجل الكامل كما أسماه موس. وما عناه بالنظرة الثلاثية هي أنْ يأخذ الباحث في هذا المجال بعين الاعتبار المجالات البيولوجية والنفسية والاجتماعية للإنسان.
يرى موس أنَّ الفرد في كثير من الأحيان يتعلم ويتلقن تقنيات جسده عن طريق المجتمع من حوله، ذلك أنه لا يوجد جسد طبيعي بحركاته بالمعنى العام للكلمة_ على الرغم من أنَّه من الطبيعي أن يكون للتكوين البيولوجي أثره الأساسي في تكوين حركات الأشخاص، لكن ينبغي ألا يغيب عن أذهان الباحثين في هذا المجال الأثر النفسي والمجتمعي أيضاً على تكوين حركات الجسد المختلفة للفرد.
في الحديث عن دور العامل الاجتماعي في التأثير على حركات الجسد يقدم لنا موس وجهة نظر محددة بهذا الخصوص. فهو يعتقد أن المجتمع يسعى إلى تنظيم أدوار الأفراد ضمنه، وذلك يكون عن طريق ضبط ردود الفعل اللاواعية عند الأفراد. ذلك أن تلقين وتعليم تقنيات جسد معينة للأفراد قدّ تؤدي إلى زيادة مقدرة الفرد على السيطرة على عواطفه وردود أفعاله، وبهذا تقل نسبة ردود الأفعال اللاواعية وغير المدروسة في العلاقات المتبادلة بين الأفراد، وتقل كذلك نوبات الهلع والتوتر التي قد تصيبهم. ويعتقد موس أن تعليم وتلقين هذه التقنيات للأفراد يسمح بالفصل والتمييز بين ما يسمى بالمجتمعات البدائية وغيرها.
وتحدث موس عن مفهوم العادة عند دراسة تقنيات الجسد. فهو يعتقد أن الأجساد قد تعتاد نمطاً معيناً من الحركات نتيجة للممارسة الدائمة والمتتابعة عبر الأجيال المتلاحقة. وقدم عبر الكتاب الكثير من الأمثلة عن مفهوم العادة تلك، وربما يمكننا أن نذكر منها تقنية المشي الذي تتعلمه النساء في قبيلة الماوري نيوزيلندا. تقوم الأمهات بتعليم معرفتهن ونقل خبرتهن في (مشية البصل)، التي تعتبر مشية تقليدية مهمة لدى تلك الشعوب، إلى بناتهنَّ منذ الصغر، وتحرص الأمهات بشدة على تعليمهنَّ هذه المشية الخاصة.
ويمكن أن نربط هذا بمجتمعاتنا العربية إذ نظرنا عن كثب إلى طريقة تعليم الأمهات لبناتهن طريقة الجلوس الأمثل والمتوافقة أكثر مع الأخلاق المجتمعية السائدة. إذ تعلم نسبة كبيرة من الأمهات بناتهن أن يجلسن بطريقة معينة دون غيرها لكي تتوافق أكثر مع معايير المجتمع وأخلاقه.
وبالعودة إلى دراسة موس نرى أنه يقدم شرحاً واضحاً عن أسس تصنيفه لتقنيات الجسد المتنوعة. فهو يقسم دراسته لهذه التقنيات حسب الفئات الجنسية للأفراد، وحسب أعمارهم المختلفة من الطفولة إلى الكهولة، وحسب العادات والأنشطة اليومية التي يمارسونها، وتحدث عن أسس التصنيف هذه بالتفصيل. فعند دراسة تقنيات الجسد حسب الفروقات الجنسية بين رجل وامرأة لاحظ موس فروقات بيولوجية واضحة في الممارسات المختلفة بينهما. فعلى سبيل المثال عند الطلب من الرجل أن يقوم بتحويل يديه إلى قبضة، فغالباً سيكون إبهام يده من الخارج بالنسبة إلى القبضة. في حين أنَّ أغلب النساء سيكون إبهام يدها إلى الداخل أثناء قيامها بحركة القبضة. يعتقد موس أن النساء والرجال لا يتعلمون هذه الحركات إنما كانت نتيجة للفروقات الجنسية بينهما.
أما النمط الثاني من أسس التصنيف فهو التقدم في العمر. ذلك أن الأطفال يمتلكون مهارات تقنية لأجسادهم غالباً ما يتخلى عنها الفرد عندما يكبر. ومن الأمثلة على فروقات تقنيات الجسد المتعلقة بالسن تقنية القرفصاء التي يتقنها الأطفال بسهولة وبراعة، ولكن تتحول إلى مشي وجلوس مع التقدم في العمر. وعلى الرغم من وجود مجتمعات ما زالت تمارس تقنية القرفصاء للبالغين إلا أنها تقنية شبه مفقودة عند مجتمعات أخرى. وكذلك الأمر تحدث موس عن أسس تصنيف تقنيات الجسد حسب الكفاءة، ذلك أن الكثير من هذه التقنيات يزداد ويتطور نتيجة للتدريب والممارسة. وذكر على هذا المثال تقنية الجري التي يعتمدها المتسابقون في الألعاب الرياضية، فالتدريب والملاحظة جعل من تقنية الجري أكثر مرونة وكفاءة عندما يحرك اللاعب يديه مع خصره أثناء الجري، وهذه التقنية كانت مكتسبة وليست بيولوجية.
الأساس الأخير الذي تكلم عنه موس كان دور الثقافة الكبير في نقل تقنيات جسدية متوارثة من جيل الى آخر. وهذه التقنية مهمة جداً لفهم الأثر المباشر للثقافة التي ننشأ في إطارها على أجسادنا. فعلى سبيل المثال من الأخلاق الدينية الإسلامية الواسعة الانتشار أن يستخدم الإنسان يده اليمنى عند تناول الطعام وهذه تقنية ثقافية بحتة، ويمكننا أن نرى أثرها الكبير في واقعنا المجتمعي، فأغلبنا يستخدم يده اليمنى في حياته اليومية بكثافة وذلك تبعاً لتعلمنا وتنشئتنا على هذه التقنية. ففي حال أن الأطفال خلقوا قادرين على استخدام يدهم اليسرى فإن التنشئة الثقافية ستجعلهم ماهرين في استخدام تقنية اليد اليمنى عوضاً عن اليسرى.
استرسل موس في تقديم التصنيفات المتعددة لتقنيات الجسد المتنوعة ضمن دراسته. وقام بتقديم شرح مفصل لكل تقنية على حدة. وقدم تصنيفات واضحة ومباشرة في مراحل نمو الفرد تبدأ من الحمل والولادة إلى الرضاعة فالفطام ومن ثم الطفولة فالمراهقة إلى مرحلة النضح وحياة البالغين.
وفي هذه المرحلة الأخير قدم موس توضيحات أكثر عن جميع الأنشطة التي يقوم بها الإنسان خلال يومه، والتقنيات المتنوعة التي يستخدمها وكيف اختلفت من مجتمع إلى آخر. فتحدث موس عن تقنيات الراحة وتقنيات النوم وتقنيات الحركة بوصفها الأنشطة الأساسية التي يقوم بها الإنسان خلال اليوم.
فعندما تحدث عن تقنيات النوم شرح موس الأساليب المختلفة للنوم في جميع أنحاء العالم. وتحدث عن الفهم المسبق الذي قد يراودنا عند الحديث عن تقنيات النوم. ذلك أنَّ كثيراً من الناس يعتقدون أنَّ النوم يعني وجود سرير ووسائد ووسائل للراحة اعتدنا عليها في يومنا هذا. إلا أن موس تحدث عن تقنية النوم لدى الشعوب المختلفة. ففي ثقافتنا العربية نرى أنَّ مجتمعات كالبدو اعتادوا النوم على الأرض مباشرةً دون استخدام الأَسرّة، وذلك لتعلمهم لهذه التقنية عبر الأجيال المتلاحقة. في حين أن مجتمعات مختلفة تعودت النوم ضمن جماعة حول النار أو حتى النوم واقفين.
أما تقنيات الراحة فكانت تشمل الأنشطة المتعلقة بتناول الطعام أو المحادثة الجماعية. وقدم لنا موس مثالأ شيقاً حول فلاحين مناطق السافانا الذين اعتادوا أن يقفوا بوضعية اللقلق لكي يقوموا بإراحة أجسادهم. وأيضا دعونا نعود لثقافتنا العربية فنرى أن الجلوس بوضعية (التربيعة) من التقنيات المنتشرة بكثرة لإراحة أجسادنا أثناء المحادثات الجماعية والجلوس على الأرض.
أما تقنيات الحركة فقد تعددت تقسيماتها عند موس، وقد تضمنت المشي والركض والسباحة والغوص والتسلق وغيرها. وفي الحديث عن تقنيات الاستهلاك قدمَ لنا موس مثالاً عن شاه بلاد فارس عند زيارته لنابليون، فقد ذكر شاه بلاد فارس المتعة التي يخسرها نابليون من عدم تناول الطعام بيديه واستخدامه للسكاكين. وهذا أمر يمكننا أن نلاحظه بسهولة عند النظر إلى تقنية تناول الطعام بين الشعوب المختلفة. فلكلٍّ منها تقنية خاصة به للجلوس أمام المائدة والأدوات المستخدمة لتناول الطعام. والجدير بالذكر أن الإنسان قادر على تعلم جميع تلك التقنيات المختلفة لتناول الطعام، لكنه حتماً سيحاول بجد في البداية لتعلم تلك التقنية الجديدة عليه، وذلك لأن هذه التقنيات جميعها متعلمة ثقافياً من الصغر.
من المواضيع الجميلة التي تثيرها دراسة موس في عقل القارئ: التساؤل عن جوهر ومنشأ جميع التفاصيل التي يراها الإنسان عند متابعة أو دراسة المجتمعات البشرية المختلفة، والوقوف لملاحظة التقاليد والصفات الطبيعية والثقافية في مجتمعاتنا، وسنلاحظ أنَّ حياتنا مليئة بالتفاصيل والعادات التي كنا نمارسها ونعتقد بكونها قضايا موجودة وجزءاً من شخصياتنا، لكنها أثر مباشر لانتمائنا إلى ثقافات معينة دون غيرها. كم جميل أن نتذكر أهمية التأثير الاجتماعي والثقافي على تكويننا النفسي وعلى حركات أجسادنا، وأن نسعى جاهدين لتكوين الصورة الحقيقية التي تشبهنا فعلاً.
في الختام دعونا نفكر معاً ماذا يعني أن نمتلك حركات وتقنيات جسدية مُتَعلمة اجتماعياً. ولو افترضنا أنَّ إنساناً بالغاً حاول أن يجرد نفسه من جميع الأفكار والممارسات المجتمعية المزروعة في جسده ودماغه، فكيف ستكون صورته الجسدية وكيف سيعبر عن جسده وردود أفعاله؟ دعونا نلقي نظرة عن كثب إلى أنفسنا وندرك ماهي الحركات الجسدية التي تعبر عنا حقاً؟ وما هي تلك المُكتسبة عن مجتمعاتنا؟ وإلى أي مدى تتشابه معها؟ وإلى أي مدى تثقلنا أو تدعمنا في مسيرتنا في الحياة؟ وهل كل ما نفكر ونمارس هو فعلاً نحن وما نريد؟ سؤال من السهل الممتنع الإجابة عنه، ولكنه أيضاً من المثير للاهتمام التفكير به.
=======
*المقالة تستند إلى دراسة (تقنيات الجسد)، للأنثروبولوجي: مارسيل موس.