عن تدوير المدوّر

حسين خليفة:

تبدو مفردة (التدوير) حاملةً أكثر من معنى، فالتدوير لغةً جعل الشيء مدوراً، أما في علوم البيئة والصناعة فمعناه الاستفادة من مخلّفات الصناعة والنفايات بأنواعها بإعادة تصنيعها بأشكال وأغراض جديدة.

سنحاول هنا ملامسة موضوع ثقافة التدوير من زاوية مجتمعية واقتصادية أيضاً.

فالأم، وهي المسؤول الأول عن الاقتصاد المنزلي بصفتها مديرة لشؤون المنزل، كانت تقوم دائماً بتحويل ملابس الولد الأكبر إلى أخيه الأصغر، حتى تهترئ وتصبح غير صالحة للاستعمال، كما كانت تقوم بتدوير بعضها إلى خيطان تتم حياكتها لاحقاً لتصبح ألبسة جديدة، أو قبعات أو جوارب شتوية أو مماسح للمنزل حسب نوع القماش ومواصفاته، والسيدات السوريات تحديداً معروفات بقدرتهن الفائقة على إدارة أعمال المنزل والاستفادة من كل شيء، حتى الأزرار يمكن استخدامها في صناعة العاب أطفال كعيون أو أنوف للدمى مثلاً، بعد أن يتم حشوها ببقايا الملابس العتيقة، وإلباسها منها أيضاً.

أما علب التنك التي تفرغ من محتوياتها فلها وظائف عديدة لدى العائلة السورية، فتتحول إلى أحواض زريعة أو أوعية لتعبئة المياه أو تسخينها.

الكتب والدفاتر والحقائب المدرسية أيضاً تنتقل من جيل لجيل على أيدي أمهاتنا، وحتى الورق التالف من ورق جرائد أو كتب تالفة يتم حفظه واستخدامه في أعمال المنزل.

الخضار والفواكه تتفنن المرأة السورية في عدم هدرها، فتُحوّل المشمش والكرز والتين والعنب إلى مربيات قبل أن تذبل، وتُحوّل الزيت المقلي إلى صابون، ولن تتسع مقالة لفنون الأسر السورية في الاستفادة من كل نعم الطبيعة.

أرى أن موضوع تدوير المواد لدى الأسر ليس مرتبطاً بالضرورة بالوضع المادي للأسرة وإنما هو مخزون تراثي وحضاري أيضاً يتعلق باحترام النعمة والحفاظ على البيئة، وليس مصادفة أننا كلنا رُبّينا على احترام الخبز مثلاً، وحالما نجد قطعة خبز مرمية على الأرض نسارع إلى التقاطها ووضعها بعيداً عن أقدام المارة، وعلى سيرة الخبز اليابس فهناك كثير من الطرق للاستفادة منه وتدويره علفاً للحيوانات والطيور حسب ما هو متوفر، وأدعي أنه لا أحد يتجرأ على رمي قطعة خبز في الحاوية إلاّ حالات شاذة.

هذا ما يتعلّق بالأسرة السورية، أما ما يتعلّق بالحكومات فقد سنّت تشريعات وقوانين للاستفادة من المواد التالفة ما أمكن، وعدم هدرها، لكنها كمعظم القوانين يتم نسيانها في الدروج أو تبتلعها حيتان الفساد والإفساد.

ويعتبر البلاستيك من أكثر المواد التي يتم استهلاكها ثم رميها في القمامة، وتلجأ الحكومات والشركات المتخصصة إلى إعادة تدويره، وذلك بإذابة وخلط للعديد من أنواع البلاستيك المُستخدمة مع مواد أوليّة أخرى من خلال مجموعة من العمليّات الأساسيّة لإنتاج حبيبات أو مسحوق البلاستيك ليتم قولبتها وتشكيلها بما يناسب الغرض المُستخدم لأجلها، وكل ذلك من أجل الحصول على منتجات جديدة ذات نوعيّة جيّدة، وقد تكون هذه المنتجات تختلف تماماً عن المنتج القديم، فعلى سبيل المثال قد يتم إعادة تدوير الحقائب و أكياس التسوق البلاستيكيّة لتدخل بصناعة السجاد والألواح، وإعادة تدوير قوارير المشروبات البلاستيكيّة لتدخل بصناعة جاكيتات الصوف.

ويتميز البلاستيك باتساع مجالات استخدامه من ألعاب الأطفال إلى إكسسوارات السيارات والأثاث المنزلي والأدوات المنزلية وتمديدات المياه وغيرها.

ومن جهة أُخرى قد يتم الاستفادة من المنتج القديم نفسه مثل زجاجات العصير والمواد الغذائية.

وتعد الأجهزة الالكترونية ومخلفاتها من المواد الخطيرة على البيئة والصحة العامة بسبب احتوائها على مواد ذات سمية عالية وأضرار كبيرة مثل الليثيوم والرصاص والزئبق والباريوم والكاديوم والكروم والنحاس والفلور والهيدروجين والنيتروجين والتوتياء والنيكل والذهب والأمونيوم والزرنيخ والمغنيسيوم.

وبذلك تعد عملية إعادة تدويرها فائدة مزدوجة فمن جهة توفير المواد الخام أولاً، والحفاظ على البيئة من الأثر السلبي لهذه المواد ثانياً.

والدول النامية هي من أكثر الدول التي تزيد لديها النفايات الإلكترونية، وقد ينتج عنها خلق جبال ضخمة من النفايات الإلكترونية، وذلك بسبب قيام مافيات التجارة فيها بالتواطؤ مع السلطات الفاسدة باستيراد الأجهزة الإلكترونية الأرخص سعراً والمستعملة والتي تتلف بسرعة ويسهل رميها، مما نتج عنه الاستنزاف المستمر لاقتصاد الدولة، وقد تنتشر الأضرار الصحية التي تنتج عن هذه النفايات بسبب عدم قدرة الدول النامية على إعادة تدوير هذه النفايات.

يبقى من واجب الدول البحث عن أكثر الطرق أماناً وهدرا للمواد ونظافة للبيئة من أجل بناء اقتصاداتها التي تعتمد على الطاقات النظيفة مثل طاقة الشمس وطاقة الرياح، وهي رغم ارتفاع تكاليف تأسيسها تتميز بتوفير الوقود وبكونها صديقة للبيئة وخاصة طاقة الرياح.

وخلال دراستي في كلية الهندسة الميكانيكية كان يدرسنا الدكتور مطانيوس عقل مادة ميكانيك السوائل التكنيكي، وهي مادة لها علاقة بحركة وتحريك السوائل والغازات واستثمارها، وهو خريج جامعة ألمانية  ومن العقول المبدعة، فقد كان يُطلَب إلى ألمانيا لتقديم استشارات هندسية لبعض الشركات هناك، فيما كان عندنا أستاذاً منسياً للأسف، وقد أخبرنا (في ثمانينيات القرن الفائت) بأنه قدم مشروعاً متكاملا لرئاسة الوزراء حينذاك لاستثمار فتحة حمص في توليد الكهرباء، وأنه سيوفر طاقة شبه مجانية ونظيفة للمنطقة الوسطى كمرحلة أولى، لكن مشروعه وضع في الأدراج مثل عشرات المشاريع المشابهة، وحتى لم يُطلب منه شرح المشروع وإقناع أصحاب القرار والكروش به.

فأي أمل بأصحاب قرار يحيّدون المبادرات والمبدعين؟!

العدد 1102 - 03/4/2024