فايز جلاحج.. الصخرة الشامخة في الذُّرا
المحامي نبيه جلاحج:
هي الحياة ذاتها تمنحنا من لدنها قساوة الفراق، فبعد دهر كامل من العيش المشترك على درب شائك طويل، يغادرنا جزءٌ من ذاتنا تاركاً بقيّتنا قبل استكمال المسيرة التي بدأناها من أجل حياة أفضل لوطننا وشعبنا.
ولد فايز جلاحج في القنيطرة عاصمة الجولان عام 1940 في عائلة كادحة، واستكمل دراسة المرحلة الابتدائية في مدرستها. وباكراً تعرّف على الفكر الشيوعي من خلال علاقته بأصدقائه الذين كانوا يقاربونه في العمر، ومنهم (مفيد بشارة وفكرت رجب ومهدي صوقار) وغيرهم والمتأثرين هم أنفسهم بجيل أكبر منهم قليلاً، وأبرزهم خال فايز (مراد يوسف)، وقريبه البلشفي العتيق (صلاح جلاحج) وآخرون منهم: (قحطان المفتي ـ يشار صوقار ـ زراموك سامكوغ) وغيرهم.. وكذلك من خلال مطالعته للأدب الثوري الذي كان متوفرا آنذاك (الأم لمكسيم غوركي، والفولاذ سقيناه.. وغيرهما). ونشأت منذ البداية علاقة بينه وبين قيادة الحزب في دمشق كصلة وصل يقوم من خلالها بإيصال رسائل وصحافة الحزب إلى منظمة الحزب في القنيطرة، وغدا لاحقاً مسؤولاً عن هذه المنظمة ومشرفاً عليها حتى بعد أن أصبح فيما بعد عضواً في المكتب السياسي للسياسي.
بعد قيام الوحدة بين سورية ومصر شُنّت مطلع عام 1959 حملة اعتقالات واسعة للشيوعيين في سورية ومصر، شملت الآلاف منهم .. وقد تمكن الرفيق فايز في حينه من الاختفاء في بداية هذه الحملة لعدة أشهر عمل خلالها في ظروف سرية وصعبة مع رفاق آخرين على إعادة بناء المنظمة في دمشق وريفها، بعد أن كان قد اعتُقل معظم أعضاء هذه المنظمة، إلى أن اعتقل مع رفاق آخرين في أواسط عام 1959، وتعرّض لدى أجهزة المباحث لتعذيب شديد للإدلاء بمعلومات عن التنظيم الحزبي والتخلّي عن الحزب، إلا أنه واجه ذلك بصمود وصلابة، مما أدى إلى نقله إلى سجن المزة، وبقي فيه إلى ما بعد وقوع الانفصال (28 أيلول1961) بعدة أشهر، فأُطلق سراحه مع المعتقلين الشيوعيين الآخرين في حوالي شباط 1962.. وكان اسمه قد نشر في جريدة (النصر) بتاريخ 19/10/1961 مع أسماء الشيوعيين المعتقلين في سجن المزة بتاريخ وقوع الانفصال وعددهم 71 معتقلاً.
خلال فترة الانفصال حاول فايز متابعة دراسة المرحلة الثانوية في ثانويات دمشق إلا أن هذه المحاولة لم تتم بسبب بدء ملاحقة الشيوعيين مجدداً إثر الثامن من آذار 1963، فانتقل من جديد إلى ظروف العمل الحزبي السري، ومن طرائف العمل في هذه الفترة أنه في سعيه للتخفي عن أجهزة المباحث استأجر مع رفيقه الحميم نبيه جلاحج غرفة (علّيّة) في أحد خانات دمشق القديمة يملكها (عزت حسين) الذي كان مديراً لسجن المزة العسكري خلال فترة حكم حسني الزعيم، والذي كان جلاداً للشيوعيين خلال فترة توليه إدارة السجن.. ولم يكن لدى المذكور أدنى فكرة عن الشابين المستأجرين لديه سوى أنهما طالبين من القنيطرة يرغبان في تقديم امتحاناتهما في الجامعة في دمشق!
لاحقاً تابع فايز دراسته إلى جانب نشاطه الحزبي وحصل على الشهادة الثانية، ثم درس في جامعة دمشق وحصل على شهادة الحقوق وسجل في نقابة المحامين، ثم تدرب في مكتب المحامي الشيوعي العتيق (نصوح الغفري). وبعد أن أنهى فترة التمرين، وأصبح أستاذاً في المحاماة بدأ ممارسة المحاماة في مكتبه الخاص في بداية السبعينيات.. وقد حصل كل ذلك في الفترة ذاتها التي كانت أزمة الحزب التاريخية في أوجها. ومنذ بدء ممارسته مهنة المحاماة عدّ نفسه وكيلاً حكماً عن المضطهدين والمظلومين على اختلافهم، وخاصة عن حقوق العمال ضد أرباب العمل، وكذلك عن حقوق الإنسان وعن معتقلي الرأي، ومن أجل استقلال القضاء والمحاماة، وقد تدرّب في مكتبه وتخرج فيه العديد من المحامين المتميزين، ومنهم المحامي المناضل من أجل حقوق الإنسان (خليل معتوق) الذي ما زال معتقلاً دون محاكمة منذ حوالي عشر سنوات.. والمحامي الرفيق (فؤاد البني) الذي يشغل حالياً عضوية المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري الموحد، وكذلك المحامي (منعم هيلانة) والمحامية (نيفين شورى) وغيرهم.. كما ساهم في الكثير من الدراسات والأبحاث القانونية، وخاصة تلك المتعلقة بمشاريع القوانين التي كان يكلّفه بها الحزب. حين حصول أزمة الحزب وانقسام الحزب الشيوعي السوري إلى فصيلين أحدهما يقوده الرفيقان (خالد بكداش) و(يوسف فيصل)، وآخر سمّي آنذاك (المكتب السياسي) انضمّ فايز جلاحج إلى الجناح الأول.. إلا أنه بعد حصول خلاف بين عدد من أعضاء اللجنة المركزية وقيادة بكداش حول العديد من القضايا، وخاصة حول الحياة الداخلية للحزب وقيام هذه القيادة بتجميد ثمانية من أعضاء اللجنة والمركزية من عضوية الحزب، وحل منظمات بكاملها.. شكّل هؤلاء والعشرات من الرفاق الآخرين ما سمّي بـ(منظمات القاعدة).. واستمر هذا التنظيم إلى أن توحد مع فصيل الحزب الذي كان بقيادة الرفيق (يوسف فيصل_ الذي كان قد انفصل عن تنظيم بكداش)، وتم هذا التوحيد في المؤتمر السابع الموحد للحزب المنعقد في تشرين الأول 1991، وقد لعب الرفيق فايز جلاحج بالذات دوراً نشطاً وأساسياً للتوصل إلى عملية التوحيد هذه، خاصة أن الرفيق فايز كان يؤمن بوحدة الحزب القائمة على حياة حزبية داخلية سليمة تتنافى مع عبادة الفرد، وانتخب بعد المؤتمر المذكور عضواً في المكتب السياسي الجديد. وقد عمل بعد عملية التوحيد من أجل توطيد وحدة الحزب، وساهم بنشاط في جميع ميادين ومجالات العمل فيه الفكرية والسياسية والتنظيمية، وخاصة في صياغة مشاريع التقارير التي كانت تعدّ قبيل انعقاد المؤتمرات اللاحقة للحزب. كان الرفيق فايز جلاحج قائداً شيوعياً من طراز خاص.. فقد كان جمّ التواضع.. صلباً في قناعاته.. مع علاقات ودية وطيبة دائما حتى مع الرفاق الذين يختلف معهم في الرأي.. يعمل بصمت وهدوء دون كلل بـأية مهمة يكلفه بها الحزب، خاصة أنه كان يكلف أحياناً بالعديد من المهام المعقدة في ظروف العمل السري التي كان يمر بها الحزب، وقد لعب دوراً هاماً من أجل بناء تنظيم خاص للشيوعيين الفلسطينيين في سورية في حينه. كان شغوفاً بالقراءة مواظباً عليها على اختلاف أنواعها، وخاصة ما يتعلق منها بالفكر الماركسي والأدب العربي والعالمي. ورغم انهيار الاتحاد السوفياتي والبلدان الاشتراكية الأخرى، ظل فايز يؤمن بأن الاشتراكية هي المستقبل الأكيد للشعوب، من أجل مجتمع خال من الاستثمار والاضطهاد وتسوده الحرية والمساواة والرفاه والعدالة الاجتماعية، مع الأخذ بنظر الاعتبار العبر والدروس من التجربة السابقة بكل إيجابياتها وسلبياتها. كان همّه الأساس هو الدفاع عن حرية الوطن واستقلاله ووحدته في مواجهة جميع أعدائه من إمبرياليين وصهاينة وإرهابيين، وفي الوقت ذاته كان يكره ويحقد على الأعداء الطبقيين ومستثمري الكادحين في الداخل، ويعدّهم لا يقلّون خطراً على الوطن والشعب من أعداء الخارج، كما كان يعتبر أن إشاعة الحريات الديمقراطية من ناحية، وتلبية مصالح الجماهير الشعبية المعيشية، ومحاربة الفساد والفاسدين، وبناء مجتمع خالٍ من الفقر والجهل والتخلف من ناحية أخرى، هو الوسيلة الوحيدة من أجل تحقيق الانتصار في محاربة الأعداء الخارجيين والداخليين على السواء.
لقد قضى الرفيق فايز جلاحج حياته مناضلاً صلباً ثابتاً من أجل مجتمع تسوده الحرية والديمقراطية والكرامة والمساواة والرفاه والتقدم والعدالة الاجتماعية.. غادرنا دون وداع لأنه يعتقد أنه لم ولن يرحل عنا، وهو باقٍ معنا، ولا شك أنه محقّ في اعتقاده.