أسباب الجريمة في علم النَّفس… النَّتائج والحلول

إعداد: إيناس ونوس:

من المعروف أنَّ الإنسان كائنٌ اجتماعيٌّ بطبعه وفطرته، يحتاج للعيش ضمن جماعاتٍ يمارس كلُّ فردٍ فيها وظيفةً معيَّنةً بما يلبِّي حاجات الجماعة ككل، ولا يمكن أن يتشابه البشر جميعهم بالوظائف أو المقدرات، هذا الاختلاف الطَّبيعي من شأنه أن يضعنا أمام الأنماط المتنوِّعة للشَّخصية البشرية، فمنها المسالم ومنها العدواني، منها الفعَّال والمؤثِّر ومنها اللَّامبالي والمنعزل، منها من يتحكَّم بظروفه سواء الخاصَّة أو العامَّة ومنها من يترك ظروفه وما يحيط به يتحكَّم به وبردَّات فعله، إضافةً للعديد من الأنماط الأخرى.

ونظراً لانتشار الجريمة في مجتمعنا بشكلٍ فظيعٍ لم يعد بمقدورنا الصَّمت حيال هذا الواقع، لذا، سنتناول اليوم الجريمة وأسبابها ودوافع سلوك المجرم، وما هي الإجراءات الواجب اتِّباعها لمعالجة هذه المشكلة الاجتماعية الخطيرة في ظلِّ الأوضاع الحالية المتردِّية في السُّوء على مختلف الصُّعد والمجالات الأخلاقية منها والنَّفسية والمادية والقانونية …إلخ.

تعتبر مسألة تصنيف الجرائم وأشكالها وأنواعها مسألةٌ معقَّدةٌ ومتشعِّبةٌ إلى حدٍّ كبير، فقد تصنَّف على أساسٍ قانونيٍّ، وهنا ينصبُّ الاهتمام على العقوبات التي تقع على كلِّ نوعٍ من الجرائم ووسائل محاربتها وردعها، وقد تصنَّف الجرائم بحسب الضَّرر الذي توقعه ومدى خطورتها، وقد تصنَّف على أساسٍ اجتماعيٍّ حسب المعايير والقواعد الاجتماعية التي تنتهكها هذه الجريمة.

 

*دوافع وأسباب السلوك الإجرامي في علم النفس:

يعتبر الأساس النَّفسي للسُّلوكيات العدوانية والإجرامية حتى الآن موضوع جدلٍ علميٍّ غير متَّفقٍ عليه بشكلٍ تامٍّ بين المذاهب المتعدِّدة في علم النَّفس، فمن هذه المذاهب من يرى أنَّ الطَّبيعة النَّفسية للإنسان قد تدفعه نحو السُّلوك العدوانيِّ مثل المدرسة التَّحليلية، ومنها من يرى أنَّ السُّلوك الإجرامي سلوكٌ مكتسبٌ يتعلَّمه الشَّخص خلال حياته، ويوجد أيضاً من يرى أنَّ بعض الأشخاص يولدون مجرمين بطبعهم، لكن وبشكلٍ عام توجد بعض العوامل الأساسية التي قد تسبب السلوك الإجرامي، وقد تمَّ الاتِّفاق عليها بين الجميع ومنها:

  • الدِّفاع عن النَّفس: في الحالات التي يتعرَّض فيها الإنسان لمواقف خطيرةٍ أو تهديداتٍ من أيِّ نوعٍ من قبل المحيط، فغالباً ما يلجأ للدِّفاع عن نفسه بدافع غريزة البقاء، وقد يأتي هذا الدِّفاع على هيئة سلوكاتٍ عدوانيَّةٍ قد تصل حدِّ السُّلوك الإجرامي، وتختلف هذه السُّلوكات من حيث نوعها وشدَّتها باختلاف نوع التَّهديد والأثر النَّفسي الذي يوقعه لدى الشَّخص.
  • دوافع مادِّية واقتصادية: تعتبر العوامل المادِّية والاقتصادية من أكثر الأسباب التي تؤدِّي لسلوكاتٍ إجراميَّةٍ على اختلاف أنواعها، فالسَّرقة مثلاً تأتي من دافع الحاجة إلى المال، والقتل في بعض الأحيان قد يكون بهدف تحقيق مصالح اقتصادية، بالإضافة لأشكالٍ أخرى من الجرائم مثل التَّزوير والرَّشوة والاحتيال، وجميع هذه الجرائم وغيرها غالباَ ما تنتج عن دافع الرَّغبة بالحصول على المال سواء لأسباب مرتبطة بالحاجة الفعلية أو أسباب الطَّمع والجشع والأنانية.
  • المحاكاة والتَّقليد: لا يعتبر دافع التَّقليد من العوامل المباشرة المؤدِّية للسُّلوكات الإجرامية، وإنِّما المقصود هنا هو تنمية نمطٍ معيَّنٍ من الشَّخصية لدى الشَّخص المقلِّد تتصرَّف بطريقةٍ عدوانيةٍ وتعجب بهذا النَّوع من السُّلوكات، فعلى سبيل المثال الطِّفل الذي تربَّى في أسرةٍ يمارس فيها العنف المنزلي يكون أكثر عرضة لتعلُّم السُّلوكات العدوانية المتسلِّطة في التَّعامل مع أسرته ومحيطه، وبالتَّالي ارتكاب الجرائم المرتبطة بهذه المسألة، وأيضاً الطِّفل الذي تعرَّض للتَّنمّر والظُّلم في مرحلةٍ من حياته فإنه يكون أكثر قدرةً على الدِّفاع عن نفسه حسب ما رآه من أشخاص آخرين أو حتى شخصياتٍ تلفزيونيةٍ غير واقعية.
  • إثبات الذَّات والتَّحدِّي: يحتاج كلُّ إنسانٍ لإثبات ذاته ووجوده وقدراته وقوَّته، وقد يسعى لهذه الغاية عبر سبلٍ متنوِّعةٍ كالعلم أو الثَّروة أو الشُّهرة أو السُّلطة، وبعض الأشخاص لا يتسنَّى لهم الحصول على أيٍّ من هذه الأمور، فيجد في السُّلوك العدوانيِّ طريقةً لتحقيق ذاته من خلال إخافة الآخرين منه ومن تصرُّفاته العدوانية، وقد تتطوَّر المسألة لديه للقيام فعلاً بتصرُّفاتٍ إجراميةٍ مثل الاعتداء على الآخرين أو ارتكاب جرائم مثل الاغتصاب أو السَّلب بالقوَّة أو القتل، بالإضافة لدافع التَّحدِّي الذي قد يسبِّب الاعتداء على شخصٍ معيَّنٍ يجد فيه المجرم ندَّاً له ويرغب بفرض انتصاره عليه.
  • الخلافات الشَّخصية: وهذه ما بتنا نلحظها كثيراً وهي عديدةُ وأسبابها لا تنتهي، ومن الممكن أن تصل هذه الخلافات لحدودٍ خطيرةٍ تجعل شخصاً ما يقوم بتصرُّفٍ إجراميٍّ دون أن يكون بالضَّرورة حاملاً لصفاتٍ عدوانيةٍ إجرامية، وغالباً ما تكون الجرائم المرتبطة بهذا السَّبب غير مقصودة، مثل الشِّجارات أو الخلافات العائلية أو الدِّفاع عن الشَّرف.
  • الاضطرابات النَّفسية أو العقلية: في كثيرٍ الأحيان ينتج السُّلوك الإجراميُّ عن وجود اضطرابٍ نفسيٍّ أو عقليٍّ لدى مرتكب هذا الجرم، فقد يعاني مثلاً من أحد أشكال الاضطرابات العصابية أو الذُّهانية، وهذا النَّوع من الاضطرابات كثيراً ما يدفع الشَّخص للقيام بسلوكاتٍ معيَّنةٍ كالإجرام أو التَّهور أو ارتكاب الأخطاء دون وعيٍ كاملٍ من قبله بنتائج أفعاله.
  • الشَّخصية العدوانية: بعض الشَّخصيات البشرية ولأسبابٍ وظروف معيَّنةٍ يمرُّ بها صاحب هذه الشَّخصيات يعتبر أكثر ميلاً نحو السُّلوك الإجراميِّ نظراً لاضطراباتٍ نفسيةٍ وسلوكيةٍ يعاني منها، فمثلاً الشَّخصية المعادية للمجتمع أو الشَّخصية السَّيكوباتية فإن هذا النَّمط من النَّماذج التي تنتهج السُّلوك الإجراميِّ بشكلٍ إراديٍّ بدافع رغباتٍ مرتبطةً بهذه الشَّخصية حصراً.

 

*علاج السلوك الإجرامي..”العلاج النفسي والاجتماعي”:

يمكن تشبيه السُّلوك الإجرامي بالمرض الذي يضرُّ بالجسد الاجتماعي أو بعض أعضائه، ويؤدِّي للعديد من أشكال الألم والمآسي الشَّخصية والاجتماعية، وحينما يوجد من هو مسؤول عن هذا الجسد الاجتماعي ويهتم لأمر تعافيه ورقيّه، يغدو من الضَّروري إيجاد أفضل الطُّرق للوقاية من هذا المرض وعلاج نتائجه، ومن طرق محاربة السُّلوك الإجرامي على المستوى النَّفسي والاجتماعي والقانوني يمكن ذكر:

  • دراسة الحالة الَّنفسية للمجرم: لأنَّها تفيد في تقدير السَّبب النَّفسي وراء سلوكه الإجرامي، فقد يكون ناتجاً عن اضطرابٍ نفسيٍّ مؤقَّتٍ أو مزمنٍ أو اضطراباتٍ في نمط الشَّخصية، أو ناجماً عن مشاكل الإحباط أو الاكتئاب أو عقد الَّنقص أو أيِّ مظهرٍ آخر من مظاهر الاضطرابات النَّفسية، وكلٌّ من هذه الحالات تستدعي نمطاً معيَّناً من العلاج النَّفسي والسُّلوكي. فبعد دراسة حالة المجرم وتحديد نوع الاضطراب الذي يعاني منه، من المفترض والبديهي أن تأتي مرحلة العلاج النفسي لهذا الاضطراب.
  • تفعيل دور القانون: من خلال سن قوانين كافية تعاقب مختلف أنواع الجرائم ووضع خطط للتَّعامل مع المجرمين داخل المؤسَّسات القانونية، وذلك بغية ردع أسباب الجرائم بجميع أنواعها وأشكالها، ذلك أن بعض الجرائم ما زالت حتى الآن تمارس دون وجود قانون يعاقب مرتكبها ويردعه عنها، وهذه المسألة تعتبر أهم عاملٍ يشجِّع بعض المنحرفين على انتهاج هذا السُّلوك، ومن هنا تأتي ضرورة وضع برامج تأهيلية على المستوى النفسي والاجتماعي والتعليمي يتلقاها المجرم خلال مدة عقوبته في هذه المؤسسة، فمن شأن هذه البرامج الارتقاء بالطبيعة النفسية للشخص المجرم وتعليمه شيئاً جديداً قد يستفيد منه بعد خروجه من المؤسسة العقابية بالإضافة لمساعدته في تجاوز مدة العقوبة.
  • قيام الحكومات بواجباتها المنوطة بها لعلاج المشاكل الاجتماعية: التي قد تفضي لانتشار الجريمة كالبطالة وتعاطي المخدرات وإدمان الكحول والفقر والتشرُّد والقهر والعنوسة وغيرها الكثير من المشاكل الاجتماعية، لاسيما في مجتمعٍ كمجتمعنا مرَّ بما مرَّ به خلال سنوات الحرب التي بدأت آثارها تطفو على السَّطح معلنةً تخلخل القيم المجتمعية والتَّربوية والأخلاقية، إذ ينبغي العمل الجاد والحقيقي والمسؤول على إلغاء كل أسباب انتشار الجريمة بمختلف أشكالها، بدلاً من أن تكون تلك الحكومات أحد الشُّركاء الأساسيين والدَّاعمين وربما المؤسِّسين لما يحصل اليوم.
العدد 1102 - 03/4/2024