هل كان عروة بن الورد شيوعيّاً؟

عبد الرزاق دحنون:

في تصريح خطير جاء في مقدمة كتاب المفكر العراقي هادي العلوي البغدادي (مدارات صوفية- تراث الثورة المشاعيَّة في الشرق) يقول: (كي يكون الإنسان شيوعياً جيداً يجب أن يكون له قلب شيوعي لا مجرد فكر شيوعي). وتراني أتفق معه وأكتب هذه الخلاصة التي أُسجل فيها فكرتي الأساسية عن الشيوعيَّة-المشاعيَّة في بداية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، وهي مما عرفت وخبرت عن فئة من الشيوعيين تجنح نحو تحقيق سيرورة إنهاض تحتاجها طبقة عاملة كادحة في الحقل والمصنع، وتضم على هامشها فئات واسعة من المعدمين والمهمشين والمساكين وأصحاب السبيل الذين أعيتهم لقمة العيش.

هؤلاء وغيرهم في حاجة إلى باب الرفق والرحمة والحنان البشري مع حق الدفاع عن النفس في وجه جبروت الثروة وطاغوت القوة، بعدما عانوا مما يزيد عن الكفاية من القهر والذُّل. وهل يمكنني القول مثلاً إن المرء يمكن أن يكون ماركسياً ولا يكون شيوعياً؟ فأنا أعتبر أن عنترة العبسي اقترب من أن يكون شيوعياً- وهو ليس ماركسياً بالتأكيد- لأنه قال:

يُخْبِـركِ مَنْ شَهَدَ الوَقيعَةَ أنَّنِـي

أَغْشى الوَغَى وأَعِفُّ عِنْد المَغْنَـمِ

أما رفيقي عروة بن الورد فقد كان شيوعياً حقيقياً بكل تأكيد، وهو القائل:

وإني امرؤٌ عافي إنائي شركةٌ

وأنتَ امرؤ عافي إنائِكَ واحدُ

أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى

بوجهي شحوبَ الحقِّ، والحقُّ جاهدُ

أُقسّمُ جسمي في جسومٍ كثيرة

وأحسو قراحَ الماء والماءُ باردُ

والشيوعية أو المشاعية على العموم ليست بدعة من بدع الغرب، وهي بالتأكيد_ الشيوعية_ لها شروش ضاربة في الشرق. هؤلاء وغيرهم من أصحاب خط ما تحت الفقر-الصعاليك إن شئت وهي البروليتاريا الرثة في الغرب- يحتاجون إلى شيوعيين من نسيجهم يملكون قلوباً حارَّة شجاعة تستطيع-بلا مِنَّة من أحد- الوقوف معهم في الشدائد والمحن. هل نستنطق الأمل في أن هذه الفئة من الخلق ستُعيد اكتشاف نفسها ليس فقط من خلال معاناتها، بل وأيضاً من خلال هاجس إخراجها من ورطات الذُّل والفقر وتمليكها ما تستغني به عن التعب والكد، مما لا يتحقق دون إعادة توزيع الثروة الاجتماعية؟

هل تكمن مشكلة توزيع الثروة الاجتماعية التي عانت منها البشرية عبر تاريخها المكتوب خلف تفاصيل إنتاج هذه الثروة، التي عمل كارل ماركس على استيضاح كنهها في كتابه الشهير (رأس المال)؟ وهل تكمن مشكلة الطبقة العاملة العالمية في استغلال قوة عملها اليومية التي شرحها فريدريك أنجلز بقوله:

(لقد أوضحنا أن الاستحواذ على العمل غير مدفوع الأجر هو أساس نظام الإنتاج الرأسمالي، وأساس استغلال العامل، وأنه حتى لو اشترى الرأسمالي (قوةَ العمل) اليومية من العامل بقيمتها الكاملة باعتبارها سلعةٌ في السوق، فإنه سيظل يحصل على قيمة أكبر ممَّا دفع مُقابلها، وأنه في التحليل النهائي يُشكِّل فائضُ القيمة-القيمة الزائدة- هذا مجموعاتِ القيمة التي منها تتراكم باستمرار الكتلُ الرأسمالية المتزايدة في أيدي الطبقة المالكة).

معتنق الأيدولوجية الشيوعيَّة والعامل في أحد أحزابها ما زال يعتقد صواب هذا التحليل المنمّق، وقد ناقشت العديد منهم ووجدت ضعفاً شديداً في حجتهم، لأن ماركس-أنجلز كان يُحلل، يُشرِّح، رأسمالية بنت القرن التاسع عشر. فقد توفى أنجلز في الخامس من آب (أغسطس) 1895 وأنتَ لو عُدت إلى المقدمات السبع لطبعات (البيان الشيوعي) التي كتبها ماركس-أنجلز، ثمَّ فريدريك أنجلز وحده بعد وفاة كارل ماركس في 14آذار (مارس) 1883 ونظرت فيها بعين الباحث المُدقق لأدركت قيمة عمل الشيوعي الجيد-وقد كان فريدريك أنجلز شيوعياً جيداً بكل تأكيد- هذه المقدمات أقرت بما لا يدع مجالاً للشك أن برامج عمل الأحزاب الشيوعيَّة تتغير بتغير الأحوال والأزمان اعتماداً على مقولة واضحة لا لبس فيها: ما دامت الصناعة -الزراعة تسير في خط صاعد تقوده (المكننة) فلا بد من مواكبة هذه (المكننة) في برامج عمل و(مكننة) هذه الأحزاب – لأن الواقع يتغير ولا بد أن يُرافق هذا التغير تغيّرٌ ما في رؤيتنا لهذا الواقع. الفلاح على العموم وفي الكثير من بلدان العالم صار عاملاً زراعياً يُنتج بالآلة- ولكن هذه الأحزاب ومن يعمل معها بقيت برامجها قوالب طوب (حطب في قطرميز) كما يُقال، لا حياة فيها، وهذا يخالف أبسط مفهومات الفلسفة الماركسية وأعني الجدل مع الواقع أو الديالكتيك. فهي-أي الأحزاب الشيوعية على اختلاف تسمياتها- تحتاج إلى ثورة في طُرق عملها، وتحتاج إلى أحياء ما يشبه (نقد برنامج غوتا) وهو وثيقة-كما تعلم- تستند إلى رسالة كتبها كارل ماركس في أوائل أيار (مايو) 1875 إلى حزب العمال الديمقراطي الاجتماعي الألماني.

آلاف الكتب أُلفت في هذا الشأن وعشرات الآلاف من الأبحاث والدراسات كُتبت في الصحف والمجلات ومواقع التواصل الاجتماعي. ماذا كانت النتيجة؟ تبلبلت الأفكار واضطربت وتشوشت، تبلبلت الألسن واختلطت اللهجات التي تتحدث عن الفلسفة الماركسية وعن الشيوعيَّة وعن الاشتراكية وعن اليسار الذي يفقد مواقعه في ساحات النضال العالمية وتشرذم إلى أحزاب وأحزاب تكافح كفاحاً مريراً من أجل البقاء. ما علَّة ذلك؟ أين الخطأ؟ ومن المسؤول؟ بكل تأكيد، نحن أصحاب الفكر الشيوعي نتحمل جلَّ ما جرى ويجري وسيجري لهذا الحلم الجميل، لأننا وعدنا الخلق كما جاء في القرآن: (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ).

يمكننا القول بثقة كبيرة: إن الشيوعي الجيد يعمل مع رفاق دربه-وهو أدرى بشعابه- دون انحياز أو مستبقات عقائدية مع الاستعداد دوماً لتقبل التفكير في الأضداد والنقائض في أي مسألة. لأن العقيدة هي شرّ ما يملكه أهل الشيوعيَّة، وهي الرقيب الداخلي الذي لا يقل سوءاً عن الرقيب الرسمي. والعقيدة هي المسؤولة عن تكوين الوجدان القمعي للأفراد ومصادرة حرية الضمير. وهي وإن كانت مفيدة لتحريك الجمهور في منعطف تاريخي معين، يجب أن تبقى في منأى عن النضال اليومي للشيوعي الجيد لئلا تكون كما يقول الإمام أبو حامد الغزالي حجاباً يمنع من النظر إلى حقائق الأشياء.

وأختم كما بدأتُ بهادي العلوي البغدادي بنصّ من كتابه (ديوان الوجد) حيث يقول الهادي الشيوعي:

ليس ذا زمنَ العقلِ بل زمنُ الجوعِ، والعصرُ عصرُ الجنونِ الذي بشرونا بهِ وقالوا هو الكلُّ والعالمُ الأكملُ، وفي زمنِ الجوعِ كلُّ حنينٍ لغيرِ السلاحِ جفاء. فكيفَ يحنُ الترابُ إلى الماءِ والنخيلُ إلى الشمسِ والقمحُ للسنبلِ بل كيفَ أحنُّ إليكَ وما بي حنينٌ إلى رايةٍ يستظلُ الجياعُ بها ليقتحموا شاهقاتِ القصورِ والقلاعَ الحصينةَ بالجندِ والمالِ فيمضي الجنودُ إلى أهلهم وتعودُ القلاعُ إلى أهلِها ويفرحُ بالعدل أهلُ السماء! سلامٌ عليكَ فإنّا احترقنا جميعاً لكي يحكمَ الموتُ أرضَ العماءِ فتنبثقُ المعصراتُ بحاراً من الوجدِ تغنى الألوفُ بها ويمطرُ توقُ الجياعِ، سلاماً وفيضَ مسرّة.

العدد 1104 - 24/4/2024