قرارات الحكومة الجبائية إلى أين تقود المجتمع السوري!؟

سليمان أمين:

ربط ابن خلدون تطور المالية العامة ومسارها بحياة الدولة من النشوء إلى التدهور، بقوله: (إن الجباية في أول الدولة تكون قليلة الوزائع كثيرة الجملة، ثم في آخرها تكون كثيرة الوزائع قليلة الجملة)، أي بما يعني تكون الضرائب في البداية قليلة العبء على الناس كثيرة الإيراد، ثم مع تدهور الدولة وزيادة نفقاتها، بانخفاض كفاءتها وضعف اقتصادها وتغلغل الفساد فيها، تبدأ في زيادة أعباء ضرائبها لتعويض ما يعتري إيراداتها من انخفاض دون جدوى.

تلعب السياسة المالية للحكومة العديد من الأدوار المركزية في حياة الشعوب اقتصادياً واجتماعياً؛ فهي تمثل الأداة الأساسية لعمل الدولة وممارسة الحكومة لدورها الفاعل في الوجود الاجتماعي، وهو الدور الذي تزايدت أهميته في العصر الحديث مع تعاظم دور الدولة بتنوع مهامها وتوسع مجال عملها، الأمر الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتضخم رأس المال الاجتماعي في المجتمعات الحديثة، وتزايد أهميته في استمرارها ونموها، وهذا يدل على الأهمية الكبيرة للمالية العامة، كما أنها كانت أحد روافد نشأة علم الاقتصاد السياسي الحديث كله.

لكن، إذا نظرنا إلى واقعنا السوري فماذا يحدث اليوم؟ وما الغاية من رفع مستوى الضرائب والأسعار الكبير على المواطن السوري الذي أهلكته الحرب بكل مقاييسها، ومنها القرارات الحكومية التي ساهمت برفع معدل الفقر إلى مستوياته العليا في المجتمع السوري، والتي عملت لسنوات على تهجير قسري لأصحاب الخبرات و المهن وأصحاب رؤوس الأموال من الصناعيين وغيرهم إلى الخارج، وخصوصاً مصر التي احتوت صناع النسيج والألبسة والخيوط القطنية وغيرها، ومازال الحبل على الجرار مستمراً بالقرارات التعسفية غير المسؤولة التي تصدرها الحكومة، فكأنها تعلّق من خلالها مشانق لمن بقي في الوطن من مواطنين وصناعيين وفلاحين وغيرهم، فرفع الضريبة في الفترة الأخيرة على الصناعيين أدى إلى إغلاق بعض المعامل ومازال الوضع يتفاقم أكثر إلى السوء، ولحق بها قرار الضريبة على العقارات والمحلات التجارية وغيرها، الذي أثار استياءً شعبياً كبيراً، وهذا القرار رفع من سعر العقارات والإيجارات بشكل كبير جداً ما سيؤدي إلى ركود أكبر في سوق العقارات، الذي أصيب بالشلل الكبير نتيجة الارتفاع الهائل مع كثرة العرض وقلة الطلب، ولم تقف الحكومة عند هذا الحد، بل أصدرت قرارها الأخير برفع أسعار الأدوية الطبية بنسبة 30 إلى 40% من دون أي مبالاة بحياة المواطنين والمرضى من كبار السن وغيرهم، وهذا القرار يعتبر قاتلاً للكثيرين، فمعدل الدخل مازال ثابتاً دون أي زيادات، فالمرتب الشهري لا يكفي لعلاج مريض مصاب بالحمى، ولم تكتفِ وزارة الصحة بذلك فهي تحضر وفق ما نشرته بعض المواقع الاخبارية لرفع سعري جديد للأدوية في الفترة القادمة تقوم على دراسته وإعداده.

وبعد رفع سعر الأدوية أصدرت وزارة المالية قرارها الكارثي ترفع فيه قيم الاستيراد لـ 15 مادة غذائية أساسية لحياة المواطنين منها: (سمنة نباتية وزيوت حيوانية – زيت عباد الشمس الخام المستخدم في الزيوت النباتية في سورية – زيت النخيل للزيوت النباتية – ذرة صفراء – كسبة الفول الصويا للزيوت النباتية – بن غير محمص – سكر أبيض مكرر – سكر خام – بيليات الحديد – حليب مجفف دون دسم – حليب كامل الدسم مجفف – والسيراميك وبطاريات السيارات والدراجات النارية).  ويُقدر الارتفاع بثلاثة أضعاف السعر الحالي مع احتساب الأسعار الاسترشادية الجديدة وسعر الصرف الذي اعتمد مؤخراً!!

ويعتبر هذا القرار إعداماً جديداً للمواطنين، فهو سيرفع من الأسعار لحدود لا نعرف مستواها بعد، فأغلب المواطنين اليوم باتوا يقتاتون على الخبز وبعض الخضار، ومنهم من يقتات على الخبز والماء فقط بسبب ضعف الدخل الذي لم تفكر حكومتنا الرشيدة  حتى اليوم بأن ترفع من دخل المواطن السوري، بل ما فكرت فيه فقط هو الجباية من المواطنين لتحقيق ميزانيتها، ولا نعرف ماذا يخبئ لنا الغد من قرارات جباية أكثر ورفع ضريبي أكثر، حتى بات المواطن يفكر بأنه سوف يدفع ضريبة عن الهواء الذي يتنفسه، فهو اليوم يدفع ضريبة بقائه في بلده وصموده وتقديم أولاده قرابين لينعم مسؤولو حكومتنا براحتهم وأمانهم.

ولا شك أن خلف هذه الممارسة والقرارات الجبائية ضعفاً هيكلياً في النظام الاقتصادي ونمط النمو نفسه، وضعفاً واضحاً في إيجاد حلول وخطط علاجية خلال السنوات الماضية، ما خلق عجزاً مالياً مزمناً، عزز الميل لاستخلاص الموارد الريعية السهلة، فقد أدى الضعف الصناعي مع اختناق آفاق نمو الإنتاج والفضاء السوقي محلياً وخارجياً، ومعه التراجع الزراعي المرتبط بتراجع الإمكانات الزراعية النسبية، إلى ضعف الموارد الضريبية الإنتاجية، وتعزيز الفجوة التجارية السلبية، وتفاعل الاثنان مع الفجوة المزمنة في النقد الأجنبي، والمُتصلة بالبنية الهيكلية لواقع التبعية الاقتصادية، التي تمثل تلك الفجوة التجارية أحد أعراضها، ما أنتج ثلاثية (فجوات السيولة)، المالية والتجارية والنقدية، التي دفعت الحكومة في النهاية للتركيز على تنمية الموارد الريعية كحلول سريعة وسهلة.  وهناك كثير من التناقضات بين الإصلاحات التي تعلنها الحكومة باستمرار وأهدافها المُعلنة، ومن هذا التناقضات الواضحة التي يمكن أن نذكرها:

تناقض بين خفض العجز كسياسة انكماشية ورفع معدل النمو العام، إضافة إلى التفاؤل المُفرط للحكومة فيما يتعلق بالقدرة على رفع التحصيلات الضريبية بشكل سريع وجوهري، دون تضارب مع اعتبارات الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية خصوصاً، وهو ضرب من الخيال، فضلاً عن تجنب الحكومة لأي قانون ضرائب يُغضب رجال الأعمال والطبقات الغنية، وهكذا تتهاوى آمال تحقيق فوائض حقيقية في الموازنات، اللهم إلا بزيادة في الضرائب غير المباشرة بأشكالها المختلفة على الصناعيين والفلاحين والطبقات الوسطى والفقيرة في المجتمع، التي تعاني تمييزاً ضريبياً فعلياً، والتي تمثل الممول الأساسي للاستهلاك المحلي رافعة النمو الاقتصادي الأساسية للبلد.

وهذا يؤكد عدم جدية الحكومة فيما يتعلق بادعاءات زيادة مخصصات الدعم والأجور والخدمات الحكومية في مؤسساتها، لأن معدلات نموها المذكورة جميعاً أقل من معدل التضخم، سواء حسبناه على أساس نظرية التعويم الأخيرة في سعر الصرف بين الليرة والدولار، أو على أساس أرقام الحكومة الرسمية “المُحسنة، وهذا يعني أنها قد انخفضت كقيمة حقيقية، ومن المعيب الادعاء ببقائها على حالها، فضلاً عن الادعاء بزيادتها.

وأخيراً تناقض بين رغبة الحكومة في زيادة الإيرادات الضريبية، في ظل وضعية ركود وبطالة مُتفاقمة، سيؤدي إلى توترات اجتماعية كبيرة في القادم نتيجة ارتفاع معدلات الفقر.

ختاماً

مهما بلغت قرارات الحكومة وسياستها قوة التنفيذ والتهور، فتبقى هناك قيود موضوعية واجتماعية، قادرة على وضع حدود فعالة لتلك القرارات الجبائية والسعرية السيئة، ولابد أن تتوقف تلك القرارات عند حدٍّ ما، وإلا ستكون النتائج كارثية على المجتمع ومواطنيه.

العدد 1102 - 03/4/2024