المخدرات تفتك بالمجتمع السوري

صفوان داؤد:

أعلنت وزارة الداخلية عن أكثر من 50 موقوفاً بتهم جرائم قتل وسرقة في دمشق والقنيطرة وحلب وحمص. وفي درعا مقتل الابنة (كنانة) على يد والدها، ومقتل (ليمار) على يد خالها وكلاهما من المدمنين على المخدرات. في طرطوس والد يعمل مهندساً يذبح الأم وطفليها. سبع جرائم قتل في محافظة الرقة؛ من بينها قتل زوجة وأم بسبب تعاطي جرعة زائدة من الحبوب المخدرة. والخبر الصادم من دمشق؛ إلقاء القبض على مدمنة مخدرات استخدمت جثة جنينها المجمدة لنقل المواد المخدرة والاتجار بها، وبحسب اعترافاتها كانت تخبئ المواد المخدرة داخل شقّ أحدثته في ظهر الجنين.

من يتصور أن هذا يحدث في سورية؟!

يشير سجلّ المحاكم في محافظة درعا خلال عامي 2019 و2020، وحسب بعض المواقع الصحفية، أن من كل 100 واقعة طلاق سجلتها الدّوائر المتخصصة 40 منها بسبب التعاطي، فيما وقعت أربع جرائم قتل تحت تأثير المخدرات. وسجّلت اللاذقية المرتبة الثالثة على مستوى سورية بعدد جرائم القتل عام 2018 بلغت 41 جريمة وفق بيانات رسمية، ربع هذه الجرائم حدثت بطرف مباشر من متعاطي مخدرات، ومنذ بداية عام 2019 جرت في هذه المحافظة مصادرة 13 ألف حبة دوائية مخدرة و15 كيلو من مادة الحشيش، و150 كيلو من حبوب الكبتاغون، ولا يخفى على أحد من سكان هذه المدينة أمكنة بيع المواد المخدرة المنتشرة بكثرة في محيط حرم جامعة تشرين، أماكن شبه معلنة ومحمية من أشخاص من عائلة محرمة. وكان رئيس فرع مكافحة المخدرات في اللاذقية قد قال في تصريح رسمي سابق إن النسبة الأكبر من موقوفي العام 2019 هم بقضايا متعلقة بالمخدرّات، بينهم طلاب جامعات.

في البحث عن سبب تفسير انتشار المخدرات إنتاجاً وتجارةً واستهلاكاً وأثرها على زيادة الجرائم وقضايا أخرى كالتفكك الأسري، نُفاجأ وللأسف أن هناك إهمالاً عاماً من قبل المؤسسات الأكاديمية، في مقدمتها جامعتا دمشق وتشرين، والحكومية المختصة كوزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة الثقافة، وأيضاً من منظمات المجتمع المدني حول معالجة هذا الموضوع. ولا نعلم ماذا نَشَر أو أنجَزَ أساتذة الجامعات الحكومية في فروع التخصصات الإنسانية من أعمال. إذ لم يُلاحظ رغم هول ما يحصل على الصعيد المجتمعي أي دراسات مُحَكَّمَة أو مبادرات أو مشاريع بحثية أو إحصائية إلا النزر القليل، ولم تخرج وكالات الأمم المتحدة المعنية العاملة في سورية والشرق الأوسط عن هذا السياق. وقد اعترف المدير المسؤول في الشؤون الإنسانية بمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) بالتقصير في هذا الشأن، وقال حول الوضع في الجنوب السوري بين عامي 2015 و2018، إن المكتب لم يجرِ أي دراسة عن قضية المخدرات على الرغم من أهمية المسألة، مع ملاحظة المكتب غياب الدّولة السورية عن القيام بدورها. وإن كان تقديرنا أن ذلك غير مفاجئ، إذ أصبح تدمير المجتمعات لا يحتاج إلى الدبابات والطائرات الروسية أو الأمريكية، وإنما إلى غياب التعليم وتوفير الحشيش، وكلاهما حاصل في البلاد. ويترافق مع انهيار العملية التعليمية في سوريا بشقيها الأكاديمي والتربوي، التوفرُ الهائل للمخدرات وبأسعار رخيصة نسبياً، في الوقت الذي لا تتوفر فيه مواد أساسية للحياة كالخبز وموارد الطاقة.

لم تكن سورية منذ استقلالها مكاناً للجريمة، ولم تتجاوز نسبة الجريمة 2.2 جريمة قتل سنوياً لكل مئة ألف من نسمة (إحصاءات رسمية)، في حين المعدل العالمي هو6.1 لكل مئة ألف نسمة. تغير الوضع بعد اندلاع الحرب السورية، وفي عام 2012 سُجّلت 3823 جريمة قتل، في زيادة تفوق التصور. ومع التدخل الروسي عام 2015 سجلت سورية المركز العاشر عالمياً بنسبة الجرائم بعد أن كانت في المركز 157 عام 2010، ومع عودة سيطرة الجيش السوري ميدانياً واستعادة الحكومة السورية لزمام المبادرة على الجغرافيا السورية، سجلت البلاد المركز التاسع عالمياً في معدل الجريمة بحسب موقع (Numbeo Crime Index) المتخصص بمؤشرات الجريمة حول العالم. وصُنّفت دمشق في المرتبة الثانية بعد العاصمة الأفغانية كابل بمعدلات الجريمة ضمن مدن آسيا. وفي تصريح لصحيفة محلية، أكد مدير الهيئة العامة للطب الشرعي في الحكومة السورية بشكل غير مباشر سوء الوضع الجنائي؛ و(أن زيادة نسبة جرائم القتل بمختلف أنواعها تقدّر بنحو 30% أكثر من معدلها الطبيعي). وكشف تقرير ترجمه وبثه موقع راديو (روزنة) في أيار من هذا العام صادر عن مؤسسة (OCCRP) لتكييف السياسات العالمية مع المجتمعات الهشّة: (أن إنتاج الحبوب المخدرة وزراعة الحشيش يتم على امتداد الأراضي السورية)، وبيّن التقرير أن (تهريب الحبوب والمواد المخدرة يتم بشكل رئيسي في مناطق سيطرة الحكومة السورية، في حين تنتشر زراعة الحشيش بشكل رئيسي في المناطق الواقعة تحت سيطرة (قوات سورية الديمقراطية) وبكميات أقل في مناطق المعارضة المدعومة من تركيا في إدلب وشمال حلب). يُذكر أنه بين حزيران 2019 وأيار 2020، بلغ مجموع الكميات المصادرة من الكبتاغون، محلياً وإقليمياً، ومصدرها الأراضي السُوريّة 184 مليون حبة. وكانت السلطات اليونانية قد ضبطت عام 2018 واحدة من أكبر عمليات تهريب الكبتاغون في تاريخ أوربا قادمة من اللاذقية، بلغت قيمتها نحو 100 مليون دولار.

تشكل المخدرات العامل الأول في ارتفاع معدل الجريمة في سورية، لكن طبعاً لن يكون الوحيد، فهناك عوامل أخرى في مقدمتها ارتفاع نسبة الفقر وتدهور التعليم وانتشار السلاح وغيرها. عوامل لا يمكن معالجتها عبر القانون وحده؛ هي بالنتيجة مخرجات لأزمة سياسية عميقة تمر بها البلاد، ولا يمكن حل هذه المخرجات أو ضبطها ضمن حدودها الطبيعة دون العودة إلى المشكلة الأساسية، وهي إعادة صياغة شاملة للنظام السياسي في البلاد وفق النهج الديمقراطي وإنهاء مسألة احتكار القرار. والحال أن الحكومات ضمن هذا النظام لا تستطيع حل قضية مثل قضية أشباه الأجبان، لن يعول عليها بأي شكل، في حل قضايا كبرى كالمخدرات والفقر وارتفاع نسب الجريمة.

العدد 1104 - 24/4/2024