حرية المثقف.. هي خميرة إبداعه

يونس صالح:

أمام طغيان أجهزة الإعلام الرسمي، وشروط الحكومة الثقافية، صار المثقف عندنا يخضع لها في كثير من الأحيان، وتخلى عن تمرده- خميرة إبداعه وتفرده- ليحظى برضاء الأجهزة، بعد أن صار الرضاء الرسمي وليس الشعبي، هو وسيلة الاعتراف بالأدباء والمفكرين في عالمنا.

لقد مات في نظامنا العربي القديم شاعرنا طرفة بن العبد مقتولاً بسبب جرأته في النقد وحدّة لسانه، ودفع بديع الزمان الهمذاني ثمن تمرده وسخريته من أهل عصره فدفنوه حياً، وعندما فتحوا قبره بعد أيام من دفنه وجدوه جالساً وقد أسند رأسه بيديه.. فقد كان الرأس مثقلاً بالكثير من الأفكار الخلاقة التي قُبرت معه.. وعبد الرحمن الكواكبي مات مسموماً، وعبد الحميد الديب كان غارقاً في البؤس، وحافظ إبراهيم ينتعل الماء بدلاً من الحذاء، وهو يسعى وراء وظيفة تضمن رزقه.. كانت أبصار هؤلاء المثقفين متجهة إلى الشعب، وليس إلى كبار المسؤولين، لقد كانوا يستمدّون سلطانهم المعنوي من جماهير قرائهم.

تغيّرت الصورة الآن، وصار المثقف يسعى إلى الجوائز الرسمية، ويصارع أقرانه للحصول عليها، وليس أمام المثقف الحقيقي خيار سوى أن يعيش في عزلة، ويعمل بصمت بعيداً عن أجهزة الإعلام.

لقد تزايد الخطر على الإبداع، وصار يوصف بالفنان الكبير من كان من هواة الرسم، وبالأديب الكبير من كان قد جرب كتابة القصة أثناء الدراسة.

يحدث أحياناً أن يقترب رجل الفكر من رجل السلطة أثناء الثورات الكبرى، كما حدث بين غوركي ولينين، وبين أندريه مالرو وديغول، وحسنين هيكل وعبد الناصر، بشرط أن تبقى مساحة اختلاف بينهما، حتى يثري كل منهما عمل الآخر، ولكن هذه المواقف مضى أوانها، وبعد أن كان لينين يحاور مكسيم غوركي، ظهر جدانوف (وزير الثقافة السوفييتي) الذي ظل حتى منتصف الخمسينيات، يصادر أعمال ديستويفسكي، وخلال هذه الفترة ظهر جوزيف ماكارثي في أمريكا يفتش في عقول المثقفين عن الرأي المخالف لرأيه، ليصفه بالخيانة عن طريق لجان التحقيق، ولهذا ظل موضوع الحرية يشغل عقول كبار المثقفين في النظام الغربي.

أليس ما يحدث عندنا من تدجين للأدباء والمفكرين، وتفريغ لأجيال جديدة من المثقفين في حضانات أجهزة الإعلام، هو الذي مهد لإبعاد المثقف الحقيقي عن موقعه المؤثر بين الجماهير؟

علينا أن ندق ناقوس الخطر، وندق الباب بالأيدي المفرجة كلما غابت عن الساحة قضايانا المصيرية، وكلما تحول أديب ملتزم بقضايا الواقع إلى كاتب إعلامي مدجّن، يرقد طوال العام ليظهر في مناسبة رسمية، وقد انتهى من كتابة مسلسل تلفزيوني محدد له سلفاً، وكلما تحول مفكر إلى صانع توصيات في لجان المؤتمرات الحكومية، وسوف نحتاج إلى أكثر من ناقوس وأكثر من باب ندقه كلما كتب أديب بيده من الشمال إلى اليمين، بلغة فرنسية أو إنكليزية، لينضم إلى قافلة الفرانكفونية أو الساكسونية، أو كتب بلغة عربية وعينه على قضايا مجتمعات غربية وقراء أجانب، يترجم أدبه ويرشح لجوائز عالمية.

ورغم ذلك لم نسمع عن مفكر أو أديب يضخ بإبداعه دماء جديدة في شرايينا، طوال العقود الأخيرة، فالأسماء التي تدعى للمؤتمرات الثقافية، هي نفسها أسماء المثقفين من نحو نصف قرن تقريباً، والأفكار هي نفسها الأفكار التي تدور في أروقة الصفوة، التي انعزلت عن حركة المجتمع، والصفحات الثقافية في الصحف تحولت إلى سرادق لتأبين العمالقة الراحلين الذين لا يجود الزمان بمثلهم. لقد شاخت ثقافتنا وترهلت وتجمدت، وصارت تقدم إجابات قديمة لأسئلة جديدة، وتتوالى الأحداث التاريخية والتحديات الحضارية التي تستنهض الهمم للتجديد والإبداع، ولكن طبقة سميكة عازلة تعزل الأجيال الجديدة والدماء الشابة عن التفاعل والتلاقح والإخصاب مع الأحداث والتحديات.

والسؤال المطروح هو: كيف يمكن تحرير الأجيال الجديدة من هذه الطبقة العازلة، لتجيب عن أسئلة العصر، وتواجه تحديات الإبداع بالثقافة الحقيقية؟

 

العدد 1104 - 24/4/2024