الأبوَّة بين التَّسمية والتَّطبيق
إيناس ونوس:
حين قابلتُهُ أوَّلَ مرَّةٍ كنتُ في رَيعان الصِّبا، كادَ رأسُهُ يصلُ السَّماءَ شموخاً، وابتسامته لا تفارقُ ثغرَهُ، أذكرُ أنِّي حينَ مددتُ يدي لأصافحَهُ شعرتُ وكأنَّ أصابعي عصفورٌ يجدُ الرَّاحةَ بعدَ تعبْ، سرى في دمي دفءٌ وحنانٌ لا مثيلَ لهما، كنت صديقة ابنته الصُّغرى، ما جعلني أتردَّدُ لزيارتهم عدَّة مرَّات، ومن خلال أحاديثنا الكثيرة والتي كانت مجالاً لصديقتي لتعطيني لمحةً مسبقةً عنهُ، تختصرها بجملتها الشَّهيرة: (أبٌ بكلِّ ما تعني الكلمةُ من معنىً)، وكنتُ أتساءلُ في سرِّي ما معنى ما تقوله؟ وكيف يمكنُ أن يختلفَ بعض الآباء الرِّجال عن البعض الآخر؟!
بعدَ مضيِّ فترةٍ من الزَّمن بدأتُ أدركُ ما تحمله كلمات صديقتي من معانٍ عديدةٍ وليس معنىً واحداً، نعم، فبعض الآباء يختلفونَ كثيراً عن بعضهم الآخر، فمنهم من يختزلُ وجودَهُ بالأمور المادِّيَّةِ وتلبيةِ متطلَّباتِ الأسرة واحتياجاتِها، ومنهم من يوجَدُ على هيئة جسدٍ فقط دونَ أن يترك فرقاً بين وجودهِ وغيابه، ومنهم من يتخلَّى عن كلِّ مسؤوليَّاته بالمطلق وقد رمى أسرته خلف ظهره مفضِّلاً ذاته عليها، ومنهم من يكون أمَّاً وأباً في الوقت ذاته، فيتحلَّى حقيقةً بصفاتِ الأبوَّة الحقَّة.
الأبوَّةُ التي تعني الملاذَ الآمن، الحنان، العطف، التَّفهُّم، السَّند الصَّلب الذي لا تغيِّرهُ الأيَّامُ ولا المواقف، المعلِّمُ والمرشد، النَّموذج الأوَّل للرَّجل في ذهنِ كلِّ فتاةٍ لترسم معالم فارس أحلامها بالمقاييس ذاتها.
ومنذ ثمانية وعشرينَ عاماً وحتَّى اليوم لا يزال ذاكَ الشَّامخ يسمو بشموخهِ ويرتقي بأبوَّته، وبعد أن أصبح جدَّاً صرتُ أقولُ هنيئاً لأولئك الأحفاد بهذا الجدّ.
قد لا أكونُ وفَّيتُ هذا الرَّجل حقَّهُ، فهو وأمثاله النَّادرون يستحقُّونَ الانحناء أمام عظمتهم وعطائهم وحنانهم، فهم قلَّةٌ في مجتمعٍ اعتدنا فيه على غياب الأب عن حياة أبنائه لأسبابٍ جميعنا بات يعرفها، منها ما يتعلَّقُ بشخصيَّاتهم وسلوكيَّاتهم الخاصَّة، وهؤلاء لا يستحقُّونَ صفة الأبوَّة، غيرَ أنَّ القوانين والمجتمع كلَّهُ وحتَّى الشَّرائع السَّماوية تقف في صفِّهم فقط لأنَّهم العنصر الأقوى في المجتمع. ومنها ما هو نتيجةٌ لأوضاعٍ معيشيةٍ ويوميةٍ صعبةٍ للغاية، وهؤلاء لا يمكن لنا أن نلومَهم على تقصيرهم بجانبٍ أو آخر، فهم مجبرون على الغياب عن الكثير من تفاصيل حياة أبنائهم، غير أنَّهم يبذلون قصارى جهدهم لتوفير لقمة عيشٍ لأبنائهم، يقاتلون الدُّنيا في سبيل نجاح أبنائهم، محاولين تقديم كلَّ ما بوسعهم من أجلهم، لاسيما إن كانوا يقومون بدور الأمِّ والأب في آنٍ واحدٍ بعد أن استشرت في مجتمعنا ظاهرة تركِ بعض الأمَّهاتِ لأبنائهنَّ مع آبائهم واتِّخاذ القرار بالعيش بعيداً عن أسرهن، متنازلاتٍ عن كلِّ مسؤولياتهنّ وعن حقهنَّ بأمومتهنّ.
في عيد الأب، وتحديداً في هذه الظُّروف التي نحياها، وقد باتت النَّجاةُ منها بأقلِّ الخسائر إمكانيةً ضرباً من المستحيل، أتوقُ للانحناء أمام كلِّ أبٍ يقوم بدوره الذي خصَّته به الطَّبيعة، مدركاً معنى أبوَّته وممارساً لها بكلِّ جبروته وحنّيته ووعيه وقلبه، وفي الوقت ذاته، أدعو لنزع لقب الأبوَّة من البعض الآخر الذي لا يمتُّ لهذه التَّسمية بتاتاً، وتحديداً لمن يتذرَّع بالقوانين لكي يُخرج كلَّ ما في جعبته من أنانيةٍ ويصبَّها على أبنائه بالدَّرجة الأولى دون أن يعي مدى النُّدوب التي سيتركها في نفوسهم لاحقاً.