عامود بيتنا وربُّ أسرتنا: أبي

وعد حسون نصر:

هو جسر العبور إلى حياتنا الكريمة، ومركب النجاة من الغرق في دوامتها، وطن نلجأ إليه لحمايتنا من غربة أرواحنا، ودفء نحيط به حين تطحن قسوة الصقيع عظامنا..

هو الأب بمكانته الهامة في حياة أسرته، فهو العمود الذي تبنى عليه، وركن أساسي من أركانها، لا يمكن أن نولد مُكلّلين بالأخلاق ونعرف الخطأ من الصواب عفوياً، إنما نكتسب هذه المبادئ اكتساباً من الأب والأم معاً.. زرع القيم والمبادئ والأخلاق الحميدة فينا، فالكثير منّا يظنُّ أن الأم هي الشخص الوحيد المسؤول عن تسيير أمورنا في المنزل لوجودها المستمر فيه ومعنا، وبالتالي هي الشخص الوحيد الذي نلقي عليه طلباتنا ونخبره ما نريد، نبكي أمامها عند الخذلان، ونصرخ عند الغضب، نضحك معها، متناسين الأب الذي لولاه لم تكن هذه الضحكة ولم تكن حتى الدمعة، فهو فرحة لمتنا ودمعة تشتّتنا، غيابه عنا كارثة لا ندركها إلاّ عند السقوط في هفوات الحياة ومواجهتها بأنفسنا، هنا نشعر أننا ضعفاء، فلا سند يسند وقعتنا ولا يد تنتشلنا من غلطنا، لتكون الهاوية خير مكان لنا بخيبتنا.

من الطبيعي أن يغيب الأب عن أسرته ليتمكّن من مجابهة مطالب الحياة وأعبائها، وهو مضطرٌّ للعمل ساعات طويلة، فلا نراه إلاّ في أوقات قليلة وأحياناً لا نراه يوماً كاملاً حسب طبيعة عمله، مجسدين بفكرنا أن الأب هو هذا الشخص المتهكم الذي يدخل المنزل والعقدة بين حاجبيه، نخشى أن نطلب منه شيئاً، وإن طلب هو منّا نتأفّف ونتذمّر لأننا نظن أنه يلقي علينا الأوامر، في الوقت الذي هو فيه بعيد عن مشاكلنا. لكن هذا التفكير مغلوط جداً، فهو أكثر شخص منهمك في مشاكلنا ويسعى لتحقيق مطالبنا، وبالمقابل لا يمكن التعميم وجعل الآباء جميعاً بنفس السوية،  فهناك آباء يتخلّون عن مهامهم ويلقون أعباء الحياة على الأم وحدها، ويجعلون من أبنائهم أرباب أُسر رغم صغر سنّهم، يغادرون بحجّة سوء الحظ، يشحّون بالمصروف على أبنائهم تحت ذريعة سوء الفرص، ومع هذا قلائل هم الذين يفكرون بهذه الطريقة، مع العلم أننا في محيطنا نرى تجارب كثيرة على أرض الواقع عن أب غادر بيته بذريعة السفر ونسي الزوجة والأبناء، ولم يعد يرسل لهم شيئاً، ولا يطمئن عليهم بذريعة الظروف الصعبة وقلّة العمل والمال، وبعد غياب طويل وبعد أن يكون الدهر قد رسم خطوطه وألمه على وجه الزوجة وهي ترسم مستقبل أولادها وتسير بهم نحو الحياة، يعود الأب من جديد منهكاً لا يملك إلاّ معالم الدهر وخطوط العمر هو الآخر، ليفرضه المجتمع عليها وعلى الأبناء بحجّة أنه لم يلقِ يمين الطلاق وله حق في المنزل، فأين هذا الحق إذا أنت تركت خلفك الزمن وسرت وحدك إلى المستقبل؟؟ وبعد أن أصبح المستقبل خلفك عدت من جديد لتعيد الزمن وأنت تعلم أنه من المستحيل أن يعود الزمن لتعود كما كنت.

ولا ننسى أن منهم من يلجأ لتجديد حياته بامرأة أخرى تحت ذريعة الشرع الذي حلّل له الزواج مثنى وثلاث وأربع، ليرمي خلفه عشرة عمر مع زوجته الأولى وأولاده بحكم الأنانية ويهدم أسرة سقطت مع سقوط عمودها وركنها، منساقاً وراء رغباته وشهواته وحبّه لذاته. ولكن هذا المستهتر يقابله أب رائع أفنى العمر ووصل الليل بالنهار ليقدّم لأبنائه الراحة والحياة الكريمة، ليزرع الأمل في عيونهم بعيداً عن ضيق فسحته في الحياة، فالكثير الكثير من الآباء توفيت زوجاتهم وكانوا لأبنائهم الأم والأب رغم الفراغ الكبير الذي تركته الأم، والكثير منهم حاول ملء مكان الأم أمام الأبناء بالحنان والعطف واللهفة، ولم يفكروا بأن تحلّ امرأة أخرى محلّها، ومضى العمر ومازالوا يغطون هذا الفراغ، زوجوا أولادهم وباتوا أجداداً، ولم تخطر ببالهم فكرة زوجة أخرى، بل على العكس كانوا هم الأم والأب للأبناء، والجدّ والجدّة للأحفاد.

من هنا، لا يمكن لنا أن نلغي دور الأب ضمن الأسرة لأنه الركن الأساسي فيها، ولا يقلّ عطفه أهمية عن عطف الأم، وإن كانت معالمه غامضة خط الزمن عليها أعباءه، لكن روحه تعطي الحب بلمسة يده وتعبه وجهده. لا تظنّ أن أباك بعيد عنك، فهو موجود في حقيبة مدرستك، في سروالك الجديد، في قميصك الوردي، في لفافة الخبز الطرية. لا تظنُّ أنه لا يشعر بحزنك فالشعور متجسّد بالنقود الموضوعة تحت وسادتك وأنت نائم لتستيقظ صباحاً وتشتري لوازمك، لذلك يجب ألا نظلم الأب، وإن كان البعض من الآباء بعيداً عن شعور الأبوة والأسرة، وسبباً مباشراً لتشرد أطفاله، هذا التشرد الذي نلاحظه على أرصفة الطرقات، وفي حاويات القمامة مع الذل المليء بقذارة المجتمع في الكيس الموجود على ظهر الطفل البريء، لكن بالنهاية نحتاج أباً نخلد ليده وقت البكاء لتمسح دموعنا، وإلى صدره وقت الخوف لنحمي أنفسنا ونضمّد جراحنا، رغم أنه في المقابل هناك من ترك أبنائه يضمدون جروحه قبل جروحهم، ونسي أنه ربُّ أسرة وجسر عبور إلى حياة كريمة.

العدد 1102 - 03/4/2024