هل سنضع الفلسفة في المتحف؟

ريم داود نخلة:

عاش إنسان ما قبل التطور العلمي والنهضة الصناعية حياة بساطة كان عنوانها (الشقاء بفرح). كانت تلك الحقبة مميزة بالبساطة والتواضع والبركة، وعلى الرغم من كل التعب والجهد الذي كان يتكبده الإنسان في حياته، إلا أن أولوياته كانت ضمن نطاق أسرته، فقد طغت على تلك الفترة البساطة الممزوجة بالعفّة والفضيلة وتواضع الملبس والمسكن والتقشف بشتى تفاصيل الحياة، فمن منا لم يسمع عن لسان جدّيه كم كانت الحياة أفضل وأمتع في السابق، على الرغم من توافر الكثير من الميزات التي لم يسبق لأجدادنا أن عاصروها اليوم؟ قيم ومبادئ تغيرت أو ربما تخلى عنها إنسان الآلة والتطور العلمي.

اللافت في هذا الأمر هو رواية صموئيل إريوان التي نُشرت عام ١٨٧٢ وقد تناولت فصول الرواية اكتشافات يصل إليها العلم، موضحاً الدور الكبير الذي ستلعبه الآلات في تطور البشرية ونقل العالم إلى النهوض والازدهار. فهل كل ما وصلنا إليه اليوم مدروس ضمن خطط ممنهجة؟ أم أن أهل السابق كانوا يتأملون المستقبل البعيد؟

 

التطور العلمي ودوره في حياة البشرية

لقد ساهم التطور العلمي في الوصول إلى التقنيات والتكنولوجيا الحديثة، فقد منحت التكنولوجيا للبشر جميع سبل الراحة سواء داخل المنازل أو ضمن أماكن العمل، وصولاً إلى المدارس والجامعات والطرقات. لقد غدت التكنولوجيا تشكل معظم تفاصيل الحياة كالسيارات، والهواتف، والأجهزة الذكية، وشاشات الإعلانات وصولاً إلى المعدات والآلات الصناعية التي أدخلت العالم مجال الصناعة من بابه العريض والواسع، بعد أن كانت الصناعة تقتصر على المجهود الفردي والحرف اليدوية البسيطة، أي نستهلك مما ننتج. وقد سهلت تلك التكنولوجيا حركة التجارة من استيراد وتصدير مبدعة باختراع ما يسمى المعاملات الإلكترونية التي وفرت الوقت والجهد بأقصى درجاته. فعلى مرّ الزمان كان الذكاء الصناعي حاضراً في الأفلام والروايات والخيال العلمي الذي كان يعرض الجانب السلبي والإيجابي له وتأثيره على البشرية والإنسانية جمعاء، إلى أن غدا الخيال حقيقة، وأصبح جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية ابتداءً من وسائل النقل وصولاً إلى ابتكار مساعدين افتراضين لأداء المهام الصعبة. ومع هذا التطور والتقدم الهائل الذي شهده العالم والنقلة النوعية من حال إلى حال، التي ترتب عليها آثار باتت واضحة في ظهور الطابع الاستهلاكي للمجتمعات وخاصة النامية منها، لكن المؤسف في ثقافة الاستهلاك تلك أنها باتت ثقافة منتزعة من قيمها الإنسانية، فلم يعد سعي الإنسان للاستهلاك من أجل أن يحقق إنسانيته، بقدر ما أصبح الاستهلاك بهدف الاستهلاك، فالأشياء المنتجة لم تعد تشكل شروط عيش للإنسان ونشاطه، بل تحولت لتصبح مقياساً تحدد من خلاله قيمة الإنسان، إذ فقدت الأشياء المبتكرة قيمتها الحقيقية التي يعبر من خلالها عن الجهود والتجارب والمعارف والأذواق، لقد أفقدها المجتمع الاستهلاكي قيمها الإنسانية، كما عمل النظام الرأسمالي المعاصر على خلق إنسان جديد لم يعد الشيء بالنسبة له ذا قيمة إلا إذا امتلكه واستهلكه، وبالتالي يتحول الإنسان مع هذا السلوك ليصبح ذلك أسلوب حياة لديه، فالجذور الفلسفية للمجتمع الاستهلاكي ركزت على فكرة أن الطابع الحرفي والعمل اليدوي لم يعودا قادرين على تلبية حاجات السوق المتزايدة، مما أدى إلى  تراجع واضح فيها. وأمام كل هذا التطور الممزوج بتراجع للقيم والمبادئ التي عهدتها الإنسانية، يحاصرنا سؤال كبير ألا وهو: هل ما زالت الفلسفة جوهر كل تقدم وتطور؟ هل ما زلنا نعتمد عليها في أمور حياتنا لكونها تشكل القيمة العليا والأسمى؟ أم أننا سنضطر لوضعها في المتحف؟

 

دور الفلسفة في حياة الإنسان

مما لا شك فيه ولا جدال أن الفلسفة تعنى بحياة الإنسان، فهي طريقة تفكير تلازم جميع قضايا الحياة وجوانبها على الصعيدين الفردي والجماعي، فالفلسفة نمط حياة، وكما أشار إليها (كانط) في قوله: لا يمكن أن يحيا الإنسان إنسانيته في أقصى مداها إلا بممارسة التفلسف. فالفلسفة تقوم بدور هام في حياة الإنسان على عدة أصعدة ومستويات في أنسنة الإنسان وتنشئته، كما تعمل على تقوية السلوك العقلاني وتعزيزه لديه، إضافة إلى  تحصينه بالثقافة العلمية والفلسفية التي تساعده في التعبير والنقد العلمي، كما تساعد الفلسفة الإنسان على فهم المنطق والاستدلال والتحليل والبرهنة وصولاً إلى  النقد وإصدار الأحكام، كما تزوده بقيم ومبادئ وغايات سامية تترافق معه منذ خطواته الأولى وصولاً إلى مراحل التعليم العليا، فضلاً عن البحث في السياسة والاقتصاد والحقوق والعدالة والمفاهيم العميقة التي شغلت بال المفكرين، كلها أمور تصبّ في الصميم الإنساني المعيش، وتعمل الفلسفة جاهدة على البحث فيها وتلقينها للإنسان بأسلوب منظم منمق، لكن المؤلم والمخزي في الأمر أنه وعلى الرغم من كل ما ذكر عن أهمية الفلسفة باعتبارها قيمة سامية نشهد اليوم تراجعاً كبيراً وملحوظاً في الاعتماد عليها، أو بعبارة أخرى نلحظ ابتعاداً عن ممارستها، فهل يعود سبب ذلك للقفزة العلمية التي لولا جهود الفلاسفة الدارسين بها لما وصلت إلينا؟ أم يعود السبب إلى سوء إدراك الإنسان وعدم مقدرته على التمييز بين دور العلم ودور الفلسفة والارتباط الكبير بينهما؟

العدد 1104 - 24/4/2024