نظرة إلى المستقبل العربي

يونس صالح:

الفارق بين التخطيط واستشراف آفاق المستقبل أن التخطيط تدبير لأحوال الحاضر والمستقبل القريب، واستشراف آفاق المستقبل محاولة لتصور الأوضاع في المستقبل البعيد بقصد التهيؤ لاستقبالها والتعامل معها. هذا الفارق في عمق الامتداد الزمني الذي يشتغل به الجهد الإنساني في الحالتين هو الذي يستدعي بالضرورة والمنطق نتيجتين هامتين:

الأولى: أن كلاً من التخطيط واستشراف المستقبل في جزء منهما رصد لعناصر الحاضر والمستقبل القريب. وفي الجزء الآخر تدخل بالجهد المنظم لتحريك تلك العناصر واستثمارها، سعياً لتحقيق أهداف معينة.. ولكن نصيب التخطيط من التدخل لتحريك تلك العناصر وتوجيهها أوفى من نصيب النظر في المستقبل.

الثانية: إن المخطط يتعامل أساساً مع واقع قائم وعناصر حاضرة تخضع للرصد والقياس من حيث طبيعتها وحجمها واتجاه حركتها. أما الذي يستشرف آفاق المستقبل فإن عناصر الواقع لا تكون إلا جزءاً محدوداً نسبياً من أجزاء مهمته، ويبقى للخيال والتقدير نصيب كبير في تصور (المتغيرات الجديدة) وتصور التطورات المحتملة في حجم (الواقع المقبل) واتجاه حركتها، وتفاعلها فيما بينها.

ومن المؤكد، رغم ما تقدم، أن التقدم العلمي في وسائل الرصد والقياس، والسرعة الهائلة التي تتم بها كثير من التغيرات في بنية المجتمعات الإنسانية نتيجة الكشوف العلمية المتلاحقة، قد جعل استشراف آفاق المستقبل أقرب إلى (التقدير العلمي) منه إلى التنبؤ والتخمين العشوائي.

كما جعل هذا الاستشراف بالنسبة لنا أكثر ضرورة وإلحاحاً، ما دمنا نعيش وسط دول تدخلنا في حساباتها، وتحاول تحديد مكاننا على خريطة مستقبلها، كما تسعى فوق ذلك إلى تحديد هذا المكان تحديداً يناسب تخطيطها هي، ويحقق مصالحها وحدها.

ولما كان من المستحيل في دراسة خاطفة موجزة أن يستقصي أي باحث فرد كل عناصر الواقع ومكوناته، فيمكن الاكتفاء بالتوقف عند عدد من الظواهر الكبرى والعناصر الأساسية في واقعنا، والتعرض لحركتها وهي تنتقل من (الآن) إلى (مستقبل الزمان).

إن واقعنا حين نرتفع عن كثير من تفاصيله وجزئياته تنظمه ظواهر ثلاث، نتصور أنها سوف تحدد إلى مدى بعيد صورة مستقبله، وهذه الظواهر هي:

1- خطر فوات الفرصة التاريخية العظيمة التي صاحبت تدفق النفط من آباره الغنية. لقد عمرت أموال النفط مدناً وقرى وبوادي كثيرة، وأتخمت كثيراً من الأسواق العربية بآلاف السلع الاستهلاكية التي لا يشبع طالبها، لكن الصناعة لم تتوطن.. والإنتاج لم تثبت قواعده، والأداة الرئيسية (للإقلاع الحضاري) وهي إتقان لغة القوانين الطبيعية والاجتماعية.. ومسايرة النهضة العلمية منهجاً ومضموناً، لاتزال غائبة عن واقع أكثر البلدان العربية).

2 – تفكك أواصر الروابط بين البلدان العربية، وتراجع المد التضامني فيما بينها، حتى لم تبقَ منه إلا صيحات يكذبها الواقع المر كل يوم مئة مرة.. حتى لقد صار التناقض بين بعض الأشكال والطقوس التضامنية القائمة، والواقع المعيش مأساةً في صورة ملهاة.. يقتتل العرب بالسلاح وبالكلمة وبالمال.. وألوان القطيعة والخصومة وتبادل العدوان واقع يعلو صوته فوق الهامسين بآفاق الوحدة، وهنا تصرخ التساؤلات عن السوق العربية المشتركة، وعن الدفاع المشترك، وعن الاتهامات المتبادلة يومياً، وعن مآل القضية التي يدور حولها أكبر جانب من الاختلاف والاقتتال والقطيعة، وأعني قضية فلسطين، التي احتُلت وهُجّر أهلها ولايزالون يطارَدون عاماً بعد عام وحلقة بعد حلقة.

3- وإلى جانب تفكك أواصر الروابط، وبسبب هذا التفكك، بدأت نُذر خطيرة تتجمع في الأفق، معلنة تهديد استقلال البلدان العربية في صميمه، فأساطيل الدول الكبرى تجوب البحرين الأبيض والأحمر، وكذلك المحيط الهندي، محملة بقوات هائلة مستعدة دائماً لأداء أدوار داخل (المناطق العربية) لحساب تلك الدول الكبرى، ولم يعد الذي يهدد الاستقلال العربي عدوان سياسي أو عسكري يفرض به النفوذ الأجنبي على أجزاء من الأراضي العربي فحسب، وإنما صار كثير من العرب الذين تغطيهم جميعاً (عباءة) العروبة، ويرتفع فوق رؤوسهم شعار (الوحدة العربية) يتسابقون- كل بطريقته- للدخول الطوعي في دائرة نفوذ هذه القوة أو تلك، ولطلب الحماية منها في مواجهة أخطار داخلية وخارجية حقيقية أو موهومة.. دفاعاً عما يرونه مصالح الجماهير العربية أحياناً، ودفاعاً عما يرونه مصالح الأنظمة العربية في أكثر الأحيان.. وهكذا أصبح خطر التبعية السياسية والاقتصادية والثقافية خطراً حقيقياً قائماً، إحدى قدميه تطل من أرض الواقع، والأخرى توشك أن تستقر على أرض المستقبل القريب.

إن ثبات هذه العناصر الثلاثة من عناصر الواقع العربي القائم، وتحركها بعد ذلك لتكون جزءاً من مكونات المستقبل هو الغرض الذي تشهد له أكثر الشواهد، فضلاً عن أنه الغرض الذي تتحرك لتحقيقه قوى عديدة خارج البلدان العربية.. وفي مقدمتها إسرائيل، التي تهيئ نفسها لمستقبل تتحول فيه إلى القوة العسكرية والاقتصادية الأولى صاحبة القول النافذ في المنطقة كلها.

نعم، قد تكون هذه صورة قاتمة، متشائمة، ولكن هل يرى أحد أن في الواقع العربي من أسباب التفاؤل ما يستبعد أركان هذا التصور لآفاق المستقبل العربي؟

ويبقى أن العنصر (الغائب) عن هذا التحليل هو عنصر الإرادة العربية الفاعلة، التي تملك- وحدها- أن تقطع الطريق على امتداد عناصر (الضعف العربي القائم) أي آفاق المستقبل قريبه وبعيده.. ومن دون تحريك هذا العنصر فسيظل العرب يفتخرون بتراث لا فضل لهم فيه.

ويجري الحديث عن قضايا كبيرة لم يتم التحرك لعلاجها ساكناً ولا متحركاً، وتتم للمناداة بالوحدة العربية، فتضحك الشعوب ملء أشداقها حين تسمع هذا الصياح، ثم ترى من ورائه حروباً أهلية وغارات يشنها العربي على العربي، ونتحدث عن مستقبل عربي، حيث لا مستقبل لمن لا يعملون!

 

العدد 1104 - 24/4/2024