القضية الفلسطينية تعود بقوة إلى واجهة الأحداث
د. صياح فرحان عزام:
ليس من المبالغة القول إنه ظهرت حقائق ساطعة في الآونة الأخيرة، وبالتحديد من خلال العدوان الصهيوني الآثم على قطاع غزة وفلسطينيي الداخل، منها، بل أبرزها عودة قضية فلسطين إلى الواجهة عربياً ودولياً، وبزخم جديد يحمل طابع مشروع تحرير فلسطين، كل فلسطين، وهذا المشروع يتشكل على يد جيل جديد من الشباب، بعد الجيل الذي عاصر الانتداب وعاش مرحلة ما بعده، وقدم الكثير من الشهداء من أجل فلسطين خلال ثورات وانتفاضات وحروب، وأيضاً بعد اتفاقيات مؤلمة مع كيان الاحتلال الإسرائيلي كانت مجحفة جداً بحق الشعب الفلسطيني، هذا كله إلى أن وصلت الأمور إلى قيام بعض الأنظمة العربية بالهرولة باتجاه إسرائيل وتطبيع العلاقات معها تحت شعار (سلام) خادع، فقد ظن العدو الإسرائيلي وأسياده أن هذه الاتفاقيات ستُنهي قضية فلسطين وتجعل كيان الاحتلال جزءاً من المنطقة العربية، بل العمود الفقري فيها والمتسيّد عليها، لاسيما بعد الدعم الكبير وغير المسبوق الذي قدمه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لنتنياهو وزمرته العنصرية الحاكمة.
في هذه الأيام يمكن القول إن الأمور انقلبت رأساً على عقب، فقد وجد نتنياهو نفسه في مأزق حقيقي صعب يُنذر بانتهاء مستقبله السياسي، بسبب ما أقدم عليه من قمع في الداخل الفلسطيني، ومن ثم القيام بأبشع عدوان عسكري على قطاع غزة المحاصر أصلاً منذ أزيد من خمسة عشر عاماً، وقد فشل عدوانه على الشعب الفلسطيني، وعلى مقاومته، فبعد أحد عشر يوماً من القصف الهمجي المدمر للقطاع، بكل ما فيه من مؤسسات وبنية تحتية وحجر وشجر، وبعد حملات القمع للمقدسيين وفلسطينيي الـ48، بعد كل ذلك لم يحصل على ما كان يخطط له ويسعى إلى تحقيقه من أجندة خاصة وعدوانية، فصواريخ المقاومة في غزة طالت كل مدنه وقواعده العسكرية، وألحقت بها خسائر مادية باهظة قدرت حتى الآن بحوالي ثلاثة مليارات دولار، وهذا مبلغ ضخم ومكلف بالنسبة لميزانية الكيان الاحتلالي، هذا إلى جانب الهزة العنيفة التي ضربت مجتمع الكيان من الناحية النفسية، إذ برزت من جديد على صعيد الداخل الإسرائيلي تساؤلات حول أزمة وجود هذا الكيان من حيث القوة الاستمرارية.
لقد وجد نتنياهو نفسه بين نارين، نار الشمال الفلسطيني متمثلة في المقاومة الوطنية اللبنانية التي هزمت الجيش الذي لا يُقهر، هزمته في الجنوب اللبناني عام 2000 وفي الحرب على لبنان بشعبه ومقاومته عام 2006، ونار الجنوب الفلسطيني متمثلة بمقاومة غزة التي صنعت معادلات جديدة، وحققت نصراً واضحاً في الحرب الدامية عليها طيلة أحد عشر يوماً رغم كل ما تحمّله القطاع من خسائر بشرية ومادية باهظة، مؤكدة أن الشعب الفلسطيني المناضل والمتمسك بحقوقه الشرعية في عموم فلسطين، بدءاً من القدس وغزة الصامدة وانتهاء بجميع مدن الضفة الغربية وقراها والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 قد صنع ملحمة تاريخية عظيمة على طريق تحرير فلسطين.
صور بطولية فلسطينية ظهرت في هذه الملحمة، منها وقوف الطفل الفلسطيني أمام دبابات الاحتلال وتحت نيران صواريخه الغادرة يرفع علم بلاده ويلمع من عينيه شعاع الأمل، وعندما تقف طفلة فلسطينية أمام الجرافة الإسرائيلية ذوداً عن منزلها وتصرخ في وجه جنود الاحتلال، مثل هذه الصور وغيرها كثير، أدهشت العالم وزادت من التعاطف الدولي مع قضية فلسطين، وأكدت أن هذا الشعب لم ينس بلاده وأرضه، ولن يتنازل عن حقوقه، وأن غبار أوسلو وملاحقه والمفاوضات العبثية قد ولّى زمانها.
باختصار.. يمكن القول إن ما بعد (سيف القدس) ليس كما قبله. التحية كل التحية للشعب الفلسطيني العظيم، ولمقاومته الباسلة، ولشهدائه الأبرار ولجرحاه، هذا الشعب الذي برهن للعالم أجمع أنه لم ولن يتنازل عن حقوقه مهما كلفه الأمر من صمود وتضحيات.