إحياء فن الحوار والمناظرة

يونس صالح:

إننا في أمسّ الحاجة إلى الخروج عن الأساليب التقليدية في التعليم، والبحث عن طرق جديدة، تغذّي روح الحوار، وتمهّد للإحساس بالمناخ الديمقراطي. وفي حركة تطوير مضامين التعليم عندنا، يحوز، على أهميةٍ متزايدة، الحديثُ عن أهمية الحوار وعرض الرؤى والنظريات المختلفة لدى الطلاب من أجل تكوين الوعي الناقد، والمتبصّر في عملية اكتساب المعرفة وتمثلها وتوظيفها وإنتاجها.

إن هذا المنهج الحواري في التعليم والتعلم يُعنى بأسلوب التفاعل بين المعلم والمتعلم، وبين المرسل والمتلقي، قدر عنايته بمادة التعلم ومضمونها، بل واعتباره جزءاً لا يتجزأ من لُحمة النسيج المعرفية وسُداها في نهاية المطاف. إلا أن إيديولوجية التسلط التي تميز ثقافتنا تخترق توجهات مختلف الفئات الاجتماعية، فالمعلم هو الذي يتكلم في الصف، بينما يظل الطلاب مستمعين، وينطبق ذلك على كل الممارسات بدءاً من السلطات العليا، حتى مدير المدرسة، والأستاذ الجامعي، والضابط …إلخ. وحتى إذا انتقلنا إلى صورة الندوات العامة، فسوف نجد مجموعة الخبراء على المنصة يدلون بآرائهم دون مناقشة أو حوار فيما بينهم، كذلك لا يتم الحوار مع أسئلة المستمعين، ذلك أنه لا يتعدى في هذا السياق أكثر من سؤال من المشاركين وإجابة من الخبراء، كما لو أن الأمر من قبيل أسئلة الفتوى: (ما قولكم دام فضلكم؟)، فيكون الجواب قاطعاً لا مناقشة بعده. وكذلك الشأن في الندوات التلفزيونية، فالحوار مع المذيعة أو المذيع في معظم الأحيان هامشي، والإجابة رسمية عامة، وحتى مع وجود مستمعين في أي ندوة أو مؤتمر، وبخاصة حين ترأسه قيادة رسمية فوقية، كثيراً ما تكون الأسئلة معدّة سلفاً لإيجاد صورة متهافتة من صور الحوار.

أما عن أسلوب المحاضرة فإنه يتمثل في سخرية برناردشو في وصفه بأنه (كلام يخرج من فم المتحدث ليصل إلى أذن السامع دون أن يمرّ بعقل أيٍّ منهما).

والحوار في جميع الحالات، ليس مجرد إثبات وجود، أو ممارسة إبراز عضلات لتسجيل موقف، وليس مجرد إجابة وزير أو خبير أو أستاذ عن الأسئلة، وإنما هو أخذ وعطاء متصل حتى يقتنع السائل أو المسؤول برؤية أحدهما، أو حتى يصلا إلى موقف ورؤية مشتركة. وهذا هو أيضاً أساس الحوار بين الأحزاب السياسية حين تجري بينها مفاوضات وتنازلات وصولاً إلى توفيق جامع.

وفي هذا السياق الحواري، يمثل فن المناظرة نشاطاً مهماً حين يتبارى المتناظران في إبراز قيمة موقف كل منهما أو توجّهه، مما يمنح المشاركين القدرة على التقييم والاختيار بين البديلين، أو بين بدائل أخرى تتولد من خلال موقف الطرفين، وهذا بعدٌ مهمّ من أبعاد تنمية التفكير النقدي.

إن موضوع التباين في وجهات النظر، وجعله مجالاً لعقد المناظرات أو الحوارات في وسائل التعليم والتعلم، وفي العلوم الاجتماعية بمختلف تخصصاتها ومختلف المجالات الأخرى، ليحل محل كتب مقررة تعالج فيها الموضوعات النقاشية كما لو كانت كتب مواد دراسية، يعزز من بناء نظام ديمقراطي سديد، لا يقتصر على الهياكل والمؤسسات النيابية، وإنما يؤدي ذلك إلى إحداث فاعلية عقلية دينامية تشكلت بفلسفة الحوار والمناظرة واحترام الرأي الآخر، وغلبة النقد الواعي على نهج التسلط المعرفي أو التبعية الإيديولوجية أو إنكار حقوق المختلفين.

إن تلاقح الآراء وتصارعها هو جوهر الوجود الإنساني والطاقة المحركة لمسيرة العمل الديمقراطي.

 

العدد 1102 - 03/4/2024