درسٌ جديدٌ من دروسِ الحياة

إيناس ونوس:

كُنَّا صِغاراً حينما كانَ العالمُ كُلُّهُ يترقَّبُ انتفاضةَ أطفال الحجارة، فما إن تُضيءَ شاشة التِّلفاز حتَّى نتجمهَر من حولها لتوضِّحَ لنا الصُّورة ما لم يكن وعينا الصَّغير يفهم معناه الحقيقيّْ، فيفيض سيل الأسئلة والاستفسارات، وتنهمر الدُّموع من المقل الصَّغيرة التي لم تكن قد رأت بعدُ كُلَّ تلك البشاعة والوحشية وكُلَّ ذاك الإجرام.

كبرنا وأدركنا أنَّها فلسطين، قضيَّة الإنسانية برمَّتها، وحقيقة العالم وسياساته المبنية على منحيين يُكمل أحدُهما الآخر: منحى التَّخاذل وعقد الصَّفقات السِّريَّة منها والعلنية، ومنحى التَّكالب على وأد شعبٍ وأرضٍ وتاريخٍ باستعمال شتَّى الوسائل والحجج والذَّرائع.

تمَّ إخماد انتفاضة الحجارة كما غيرها من سابقاتها ولاحقاتها، ولم يتغيَّرْ في الأمر شيء، بقيت الأرض مغتصبةً، ومازال الحلم بعيداً عن التَّحقيق، وانتشر أبناء هذه الأرض في شتَّى بقاع العالم، ليس ترحاباً ورغبةً بهم بل تمريراً لسياسة منع حق العودة، ليتمكَّن المحتلُّون الشَّياطين من تحقيق ما حلموا به وعملوا عليه على مرِّ عقودٍ وعقود، ولا يزالون حتَّى يومنا هذا مستمرِّين في انتهاك كُلِّ المحرَّمات الإنسانية والدَّولية والشَّرائع السَّماوية والأرضية، اعتقاداً منهم بأنَّهم سيصلون إلى مبتغاهم، وبمساندة قوى العالم التي استخدمت القضيَّة الفلسطينيَّة لخدمة مآربها وضمان مصالحها.

اليوم، وفي ظلِّ اشتعال نيران الموت، يؤكِّد الشَّعب الفلسطينيُّ في الدَّاخل مجدَّداً تمسُّكَه بالأمل والحلم، رافضاً التَّقسيمات السِّياسيَّة وقادتها الذين خذلوه، وحَّدَهُ دم الشُّهداء وحلمه بأن يكسر كُلَّ القيود ويخرج عصفوراً ينفض عن جناحيه رائحة الذُّلِّ والموت والهزيمة، محلِّقاً نحو الشَّمس والهواء الحرّْ.. وما زاد بريق الأمل في قلوبنا جميعاً ما قام به مجموعةٌ من أبناء دول الجوار الذين عبروا الحواجز واعتبروها غير موجودةٍ أصلاً، ودخلوا إلى الأرض التي كانت ممنوعةً عليهم لمساندة إخوتهم في الحقِّ والإنسانيَّة والحياة، ما يؤكِّد أنَّه عندما يقرِّر الشَّعب أن يتَّحد لا يمكن لأيِّ قوَّةٍ في العالم كُلِّه من ردعه ومنعه مهما كانت متوحِّشةً وبربريةْ.

أجل!! قد عاد الأمل، وعادت الصَّرخات والنِّداءات بالارتفاع مطالبةً بحقِّ أولئك النَّاس من العيش كبشرٍ حقيقيِّين لهم كُلُّ الحقِّ في حياةٍ حرَّةٍ كريمة، وها هو ذا صوت الحريِّة وعطرها يفوحان في حنايا أرواحنا، فهل تكمل انتفاضة اليوم ما بدأت به الانتفاضات السَّابقة وتصل إلى الهدف المنشود؟؟ ستبقى أرواحنا جميعاً متعطِّشةً لذاك اليوم الذي نتمكَّن فيع من زيارة هذه الأراضي التي طالما حلمنا بدخولها ولمس كُلِّ صخرةٍ وشجرةٍ فيها، كُلَّ طفلٍ وامرأةٍ وشيخٍ ورجل، والانحناء أمام عظمتهم وبهائهم، في محاولةٍ لفهم الدُّروس التي لقَّنوها لنا على مرِّ الزَّمان مؤكِّدين مقولة الشَّاعر أبي القاسم الشَّابي:

إذا الشَّعب يوماً أراد الحياة                               فلا بُدَّ أن يستجيب القدرْ!

العدد 1102 - 03/4/2024