عنوان لا يمكن اغتياله.. لست مهزوماً ما دمت تقاوم!

د. أحمد ديركي:

صدرت الفتوى باغتيال حسين مروة ونفذت بتاريخ 18 شباط 1987. طرق أحد مسلّحي الحي باب بيت حسين مروة. فنظرت زوجته من منظار الباب وقالت له: ماذا تريد؟ أجاب: أريد التحدث مع حسين. بعد إلحاحه فتحت له الباب، فوضع الكلاشينكوف على باب البيت إيهاماً بسلميّته. قادته الزوجة إلى غرفة نوم حسين لأنه كان مستلقياً في سريره، وله حقٌّ بهذا، لأن عمره في حينها كان يقارب 77 سنة، فحسين تولد 1910. قال لها القاتل أريد التحدث إليه، فأيقظته من نومه وساعدته على النهوض من السرير. حينئذٍ سحب القاتل مسدسه وأطلق رصاصته القاتلة مباشرة على رأس حسين، واستقرت الرصاصة في الحائط بعد أن اخترقت رأس حسين.

وقع حسين على الأرض، تقدّم القاتل، حمل حسين ووضعه في حضن زوجته، وقال لها: (الآن، اهنئي به!).

لم تقتصر رصاصة (فتوى الاغتيال) على اغتيال حسين مروة المفكر الثوري الشيوعي، بل لاحقت أمثاله من الشيوعيين، وتحديداً مفكري الحزب ومناضليه الثوريين.

ألقى رفيقه حسن حمدان، المعروف باسم مهدي عامل، كلمة في جنازة رفيقه الثوري ومما جاء فيها: (أيّها العربيّ، كاتباً كنت أو فناناً، طالع وجهك في مرآة، مكتوب في عاليها بخط عريض: انتظر دورك إذا كنت مصرّاً على الديمقراطية والتغيير! وحّدتنا ضد غدر القتلة. فلنشكرك. أيقظت في وجدان المثقفين حقيقة هي أنهم، جميعاً، مستهدفون، لأنهم مثقفون. فمن طبيعة الظلامية، أن تقتل إيمان الإنسان بالإنسان، فالثقافة، كلّ ثقافة، خطر عليها، إذاً: فليتوحّد المثقفون ضدّ الجهَلة!).

انتظر دورك! وهذا ما حدث. لم يتأخر دور مهدي عامل لدى رصاصة (فتوى الاغتيال). أتاه الرد بدايةً في مقالٍ كُتب في صحيفة (الأحد)، الصحيفة الأسبوعية الرسمية الناطقة باسم حزب رصاصة (فتوى الاغتيال). وعن ردة فعل مهدي عامل على ما ورد في المقال تقول إيفلين، زوجته، في كتابها عن حياتها مع مهدي عامل بعنوان (صندال من نار): دخل مهدي عامل يحمل تحت إبطه الصحف اليومية. ناولها ضاحكاً، كعادته، صحيفة (الأحد) وقال لها: إليك حكم موتي! مشيراً بإصبعه إلى جملة ختامية في المقال تقول: الرجل الذي مدح حسين مروة، في جنازته في دمشق، سيرى قريباً هذا الرجل أن دوره قد أتى.

لم يتأخر دوره كثيراً، فكانت رصاصة (فتوى الاغتيال) في انتظاره بتاريخ 18 أيار 1987، وحدث ما يلي، وفقاً لصحيفة (السفير) الصادرة في اليوم التالي:

بينما كان مهدي عامل يمشي على الرصيف قرب منزله في منطقة الملا – بيروت.. المسلحون الثلاثة كانوا يستقلّون سيارة (ب. أم. ف 520) بيضاء اللون من دون لوحات، أطلقوا النار على الدكتور حمدان في العاشرة صباحاً في شارع الجزائر – منطقة كركول الدروز، في محاذاة قصر كتانه، فأصيب بطلقات عدّة في بطنه ورقبته ورجله، ونُقل على الأثر إلى مستشفى الجامعة الأمريكية، ولكنه فارق الحياة بسرعة متأثراً بجراحه.

اغتيال حسين مروة، مهدي عامل، سهيل طويلة، خليل نعوس.. وغيرهم من الشيوعيين المفكرين والمناضلين الثوريين يصنّف بالاغتيال السياسي. وهذه ليست المرة الأولى التي يجري فيها اغتيال الشيوعيين المفكرين والمناضلين، فالتاريخ زاخر باغتيالات كهذه من أمثال روزا لوكسمبرغ وغيرها.

لم يكن اغتيال حسين ومهدي وسهيل وخليل.. برصاصة (فتوى الاغتيال) لأنهم حسين ومهدي وسهيل وخليل.. بل صدرت بحقّهم فتوى الاغتيال لأنهم مثقفون ومناضلون ثوريون وأعضاء في الحزب الشيوعي اللبناني، ويمارسون أفكارهم عملياً ونظرياً. فهم، مع بقية الرفاق، حاملي مشروع، على المستوى النظري والعملي، لا يفصل ما بين التحرير والتغيير، فبالنسبة لهم لا يكتمل التحرير إلا بالتغيير ولا يكتمل التغيير إلا بالتحرير.

فكرٌ كهذا يمثل خطراً وجودياً على الفكر الظلامي. من هنا وعلى هذه القاعدة كانت (فتوى الاغتيال) جاهزة، لعجز الفكر الظلامي عن مواجهة الفكر الثوري فكراً بفكر. وقد ظن الفكر الظلامي أنه بفتوى اغتيال المفكرين والمناضلين الثوريين يغتال الفكر التحرري التغيري. لقد أصاب جزءاً من هدفه!

اجتاح الكيان الصهيوني بيروت، عام 1982، وكان هذا أول اجتياح صهيوني لدولة عربية يصل فيها إلى اجتياح عاصمته! استطاع الكيان الصهيوني وبتغطية عالمية وإقليمية، ومحلية تمثلت بقوى اليمين اللبناني، أن يدمر جزءاً كبيراً من المقاومة المسلحة، وتحديداً المقاومة الوطنية المسلحة وضمناً الفصائل الفلسطينية المسلحة، ورحل مقاتلو هذه الفصائل الفلسطينية إلى الخارج، وأتت مباشرة من بعدها مجزرة صبرا وشاتيلا للقضاء على الفتات الذي تبقّى منهم. ما أضعف المقاومة المسلحة إلى حد كبير. حدث الاجتياح ولم نسمع بتدخل مسلح من أي دولة عربية للدفاع عن لبنان أو الفصائل الفلسطينية، بل كالعادة مجرد بيانات استنكارية تضاف إلى أرشيف بيانات هذه الدول، أرشيف بيانات لفظية لا عملية!

لم يستسلم لهذا الواقع من ارتكبت بحقه جريمة الاجتياح الصهيوني، وحالاً أسس جمول (جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية). كيف له أن يستسلم ومفكرها الثوري صاحب مقالة بعنوان (لست مهزوماً ما دمت تقاوم). استكمل الحزب الشيوعي اللبناني، وبقية القوى اليسارية والعلمانية، النضال المسلح لتحرير الأرض من الصهاينة الغزاة، فطردهم من بيروت واستمر يطاردهم حتى حرر ما يقرب 70% من أرض لبنان، من دون التخلي عن مشروعه التغييري أو الخضوع لأيّ قرارات دولية.

كان الجميع يعلم، وضمناً القوى الظلامية التي نشأت خلال هذه الفترة بدعم من دول عربية وغير عربية، أن بقاء هذا الفكر الثوري بهذه القوة يشكل خطراً وجودياً عليها وعلى مشروعها، ولاستكمال مشروعها لا بد من القضاء عليه، أو تقليص قوته، إلى الحد الأدنى.

فعملت الأنظمة المختلفة الأوجه بالشكل والمتحدة في الجوهر على تدعيم قوة الأحزاب الطائفية التي تحمل إيديولوجية طائفية تعمل على تكريس ما هو قائم وتفتي باغتيال (الثقافة، كل الثقافة، (لأنها) خطر عليها). وهذا ما تم فكانت رصاصة (فتوى الاغتيال) وفعلت ما عجز الكيان الصهيوني عن تحقيقه.

إلا أنها لم تنجح ولم ينجح الكيان الصهيوني في هذا، وما زال هذا الفكر الثوري قائماً يناضل وسيبقى يناضل، وإن خفت وهجه مؤقتاً، وها هو ذا اليوم يعاود بريقه في قضيته الأم القضية الفلسطينية.

لقد عاد الشعب الفلسطيني، بكل قواه وفصائله وأطيافه، للانتفاضة مجدداً ضد الصهيوني المحتل لأرض فلسطين. ها هو ذا يقاوم بكل ما يملك ضد الصهاينة ويدفع يومياً دماً ثمن مقاومته، الشعوب خارج فلسطين تدعمه بكل ما يمكنها القيام به، والأنظمة تكتفي بمزيد من بيانات الاستنكار وأحزاب (فتوى الاغتيال) محرجة مرتبكة بانتظار (الفتوى) الجديدة للواقع القديم – الجديد، ألا وهو انتفاضة الشعب الفلسطيني ضد الكيان الصهيوني.

لكن من يحمل فكراً ثورياً لا يتردّد في نصرة الشعب الفلسطيني وقضيته المحقّة في التحرّر من المحتل وحقّه في التغيير. فبالنسبة لهذا الفكر، القضية الفلسطينية ليست مجرد (المسجد الأقصى) و(كنيسة القيامة) بل هي قضية التحرر من محتل يحتل بالقوة أرضاً ليست أرضه ويطرد شعبها لإقامة كيان عنصري، أي أنها قضية أممية تستلزم النضال من أجلها، لأنها جزء من الفكر الثوري التحرري التغيري. وهذا ما يحدث حالياً، في أكثر من بلد، على سبيل المثال ما يحدث في اسكوتلندا ليس سوى إشارة إلى مدى أممية القضية الفلسطينية في الفكر الثوري، والتي حتى تاريخه تعجز رصاصة (فتوى الاغتيال) عن اغتياله.

ففي اسكوتلندا تعم المظاهرات الشوارع مطالبة بوقف الاعتداء على الشعب الفلسطيني من قبل الصهاينة. نعم يستخدم الاسكتلنديون مصطلح الصهاينة في مقالاتهم التي تتحدث عن فلسطين. والصحف المؤيدة للفكر الثوري تعج بالمقالات المتعلقة بجرائم الكيان الصهيوني، وتنشر على وسائل التواصل الاجتماعي مقالات وفيديوهات توعية حول جرائم الكيان وأحقية الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم. فقد نشرت جريدة (socialist workers) الاسكتلندية خمس مقالات دفعة واحدة جامعة إياها تحت عنوان (سلّح نفسك بحجج لماذا من حقك معارضة إسرائيل) وعناوين المقالات الخمس هي: الانتفاضة الأولى بعد 30 سنة من الانتفاضة على إسرائيل، والثاني بعنوان قرن دموي لبلفور في قمع فلسطين، والثالث بعنوان مجزرة الإسرائيليين في دير ياسين، والرابع بعنوان لماذا إسرائيل دولة عنصرية، والخامس بعنوان النكبة تبين لماذا مقاومة إسرائيل حقّ. إضافة إلى هذا تصدر بشكل شبه يومي مقالات، وفيديوهات، تشرح فيها لماذا يحق للشعب الفلسطيني مقاومة الكيان الصهيوني.

نعم، هذا ما يحدث هناك في اسكوتلندا، وهنا تعم الاحتفالات بالأعياد!

ما يحدث في فلسطين يوضح لماذا رصاصة (فتوى الاغتيال) تريد أن تغتال كل مفكر ومناضل ثوري، وتحديداً إن كان شيوعياً يحمل لواء التحرير والتغيير بشكل غير قابل للانفصال. فالفكر الظلامي يريد فصل التحرير عن التغيير، والأصح يريد دفن التغيير! لأنه إن نجح في هذا تتحول القضية الفلسطينية من قضية أممية ناضل في سبيلها مناضلون من جميع أنحاء العالم وما زالوا يفعلون هذا، إلى قضية (طائفية) أو عرقية محصورة ببقعة جغرافية محددة، وتصبّ في مصلحة الأحزاب الطائفية في المنطقة، لتثبيت وجودها ووجود ما هو قائم من تشرذمات.

نعم، اغتالت رصاصة (فتوى الاغتيال) حسين مروة ومهدي عامل وسهيل الطويلة وخليل نعوس.. إلا أنها عجزت عن اغتيال فكرهم وممارسات فكرهم الثورية.

وما يشير إلى بقاء هذا الفكر، وبشكل قوي، ما قام به جلبير الأشقر، مع مجموعة، من ترجمة لبعض مؤلفات مهدي عامل إلى اللغة الانكليزية ونشر في المجلة الدورية (Historical Materialism) تحت عنوان (Arab Marxism and National Liberation Selected Writings of Mahdi Amel) التي تصدر من منشورات (Brill) ويتألف هذا العدد من 149 صفحة كلها مخصص لترجمات بعض أعمال مهدي عامل، وكتب جلبير الاشقر مقدمة هذا العدد. وما جاء في مقدمته:

(مثّل الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982 نقطة انعطاف رئيسية في تاريخ منظمة التحرير الفلسطينية. مع أن الحركة الفلسطينية كانت الهدف الرئيسي للاحتلال إلا أنه لبنانياً الهدف الرئيسي كان الحزب الشيوعي).

من هنا يمكن أن نقرأ القضية الفلسطينية، اعتماداً على هذا الفكر الثوري، ولقول نعم للتحرير والتغيير في فلسطين بلا كلام شعبوي معسول يقود إلى الانتحار. نقول إن تحرير فلسطين أولوية، ولكن إن لم يكن مقروناً بالتغيير فسوف تقع القوى الفلسطينية في فخ الفكر الظلامي!

نعم، وألف نعم لتحرير فلسطين المقترن بالتغيير. ولم يكتب هذا المقال من أجل ذكر اسم حسين ومهدي وسهيل وخليل.. في ذكرى اغتيالهم، وتحديداً ذكرى اغتيال مهدي، ولزج أسمائهم في القضية الفلسطينية، بل للقول إن علينا جميعاً_ إن كنا نعتبر أنفسنا في أحزاب شيوعية ماركسية لينينية تحمل أفكار مهدي وحسن وسهيل وخليل.. وما أضافوه إلى هذا الفكر وكل ما قالوه بما يتعلق بالقضية الفلسطينية وناضلوا من أجله وتم اغتيالهم بسبب هذا_ علينا ألّا نفقد بوصلة النضال، وأن نستمر في العمل على تطوير فكرنا الثوري والإنتاج الفكري وممارسته قولاً وفعلاً بما يتناسب مع كل مرحلة نضالية نمر بها، فدرب النضال طويل وشاق وبحاجة يومية إلى مفكرين ومناضلين ثوريين من أمثالهم.

تحية إلى كل قطرة عرق تنقط من جسد مقاوم أو مقاومة، فالمرأة مقاومة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، في فلسطين وخارجها ضد الكيان الصهيوني. ونقول لكل مقاوم أو مقاومة، المستخدم لكل أشكال المقاومة، حذارِ من الخطابات الشعبوية في لحظات النضال وإلا تحول عرقكم ودمكم إلى نهر يصب في مصلحة مستغليكم. تسلّحوا بفكركم الثوري ليتحول إلى سلاح في أيديكم تهزمون به كل من يحاول استغلال نضالكم المشرف، فدرب النضال طويل وشاق ولا تنسى أنك (لست مهزوماً ما دمت تقاوم)، وهذا عنوان لا يمكن اغتياله.

لذا، فإن طول الدرب النضالي ومشقته لا تتعلق بالمسائل المستقبلية فقط، بل تطول الإجابات عن أسئلة يطرحها الماضي على الحاضر، ومنها مثلاً: إن هدف اجتياح الكيان الصهيوني لبنانياً القضاء على قوة الحزب الشيوعي اللبناني، وهدف رصاصة (فتوى الاغتيال) يتطابق مع هدف الكيان الصهيوني، فكيف لهذا أن يكون؟ هل يعني اغتيال المفكرين الثوريين الشيوعيين اغتيال المفهوم الأممي للقضية الفلسطينية، وتحويلها إلى قضية (طائفية) أو (دينية) أو (عرقية)؟ ألا يكمل التحرير التغيير ويكمل التغيير التحرير؟

العدد 1102 - 03/4/2024