تأرجح تيار العزلة الأمريكية الجديد بين الرجاء والواقع
يونس صالح:
بداية لابد من توضيح مسألة العزلة، إذ إن هناك خطأ شائعاً، وخاصة عندنا حول مفهوم ذلك الشعار، والخطأ ناتج عن عاملين، أحدهما نتيجة العزلة، إذ يعني التدبير الانعزالي عن الآخرين، وكأنه قطع أو إنهاء للدور الأمريكي العالمي، وهو أمر مستحيل على الأقل في المستقبل القريب. والعامل الثاني هو عدم المعرفة بخصوصية الشعارات الأمريكية ومدلولاتها السياسية.
فقد جرى العرف أن كل رئيس أمريكي يضع لنفسه إطاراً يتحرك من خلاله ويطلق عليه عادة (مبدأ الرئيس).
وفي القرن التاسع عشر، وبالتحديد في عام 1823 خرج هذا التعبير عن العزلة الأمريكية، لوصف مبدأ الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت مونرو.. وكان مونرو يقصد عزل القارتين الأمريكيتين وليس الولايات المتحدة وحدها في مواجهة الاستعمار الأوربي، وكان دافع ذلك هو تفكير الدول الأوربية الاستعمارية في مساندة إسبانيا لاستعادة مستعمراتها التي استقلت، واعتبر الرئيس مونرو أن التدخل الأوربي تهديد لأمن الولايات المتحدة.
ويتضح أن المقصود بالعزلة في مبدأ مونرو هو احتكار الولايات المتحدة للقارتين الأمريكيتين الشمالية والجنوبية معاً، وهو ما تحول بعد ذلك إلى المعاهدة التي قامت عليها منظمة الوحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، وتشمل دول أمريكا الجنوبية مع الولايات المتحدة.
هذا ما كان مقصوداً بالعزلة في القرن التاسع عشر، وواضح أن للتعبير دلالة تختلف، بل تتناقض تماماً مع التعبير العربي السائد عن هذه السياسة.
أما العزلة الأمريكية الجديدة حالياً فهي تقوم على:
1- تحميل الحلفاء، وخاصة الأغنياء أعباء الدفاع عن العالم الرأسمالي دون أن تتحمل واشنطن أية أعباء مالية جديدة لهذه المهمة.
2- فتح أسواق العالم أمام السلع الأمريكية، وتحريم أي دعم للإنتاج الأجنبي حتى تصبح المنافسة لصالح الإنتاج الأمريكي، وبالتالي يتغير الميزان التجاري الأمريكي مع العالم من العجز إلى الفائض لحساب الولايات المتحدة.
3- جعل الأمريكيتين سوقاً أمريكية لا تقبل السلع الأخرى تحت صياغات لا تتعارض مع اتفاقية التجارة الحرة التي خططت لها واشنطن لسنوات وانتهت بتوقيع العالم عليها بالموافقة.
4- عدم إرسال القوات الأمريكية إلى خارج الولايات المتحدة إلا في حالات استثنائية تفرضها ضرورات استراتيجية.
5- ترك الحلفاء يتحملون مسؤوليات الدفاع عن مناطق محددة لكل منهم.
وإذا كانت هذه الأركان لتيار العزلة الأمريكية الجديد تبدو مطالب مشروعة ومنطقية أمام الشعب الأمريكي، إلا أن المأزق الذي يواجهه يأتي من مجموعة تناقضات.
أبرز هذه التناقضات هو أنه في الوقت الذي لم تعد فيه الاقتصادات الأمريكية قادرة على تحمل أعباء دور البوليس العالمي، فإنها بعواصفها غير راغبة عن التنازل عن القمة لأحد غيرها، بل حتى المشاركة التي يطالب بها الحلفاء هي مشاركة في الأعباء، وليست في القرار ولا في القمة على الأقل حتى الآن.
والمأزق الآخر أنها في الوقت الذي تطالب فيه الحلفاء بالمشاركة في الأعباء الدولية، فإن هؤلاء الحلفاء أكثر تحفظاً في قبول هذه المسؤولية الدولية، ليس فقط لتناقضها مع مصالحهم الاقتصادية، بل ولأن ذلك غير مقبول من شعوبها. لقد وجدت هذه الدول نفسها في ذلك الدور العملاق اقتصادياً والقزم سياسياً على الأقل حتى الآن، وفي ظل الأوضاع الدولية القائمة.
والمأزق الثالث، هو أن هناك ضغوطاً عالمية على الولايات المتحدة الأمريكية نفسها تحاول أن تفرض عليها الاستمرار في التزاماتها الدولية والقيام بدور العملاق الأوحد، وهي أصوات لها وزنها وثقلها، ليس عالمياً، ولكن في داخل المصالح الأمريكية نفسها، وهي تحاول دفع الولايات المتحدة إلى اتخاذ مواقف حتى ولو بتوريطها للاستمرار في دورها العالمي.
وتكون النتيجة أن تيار العزلة الجديدة في الولايات المتحدة يظل يتأرجح بين الرجاء في تحقيق العزلة على حساب العالم كله لإنقاذ الاقتصاد الأمريكي، والواقع الذي يحول دون تقليص الدور الأمريكي العالمي، والعامل الفاصل سوف يبقى خلال السنوات القادمة في مدى التقدم على طريق حل أزمة الاقتصاد الأمريكي.