أيّ نمط من التفكير الفلسفي نحتاج؟

يونس صالح:

أيّ نمط من التفكير الفلسفي نحتاج إليه في ظل واقعنا، بعدما وصلت الأمور إلى وضع يقرّ كل إنسان موضوعي بأنه مؤسف على جميع الأصعدة التي نعيشها في حياتنا وفي نتاجنا الفكري والثقافي؟

لا شك أن ما أوصلنا إلى ما نحن فيه هو طريقة أو طرق التفكير السائدة في مجتمعنا، التي لا صلة لها بعصر العلم والتكنولوجيا، فهي مازالت تفسر الطبيعة والعالم، وما يجري فيهما، بطريقة قصصية ولغة مجازية، وتفسر الأحداث تفسيرات ذاتية لا تعرف أي شكل من أشكال الموضوعية أو العقلانية.. وطرق التفكير السائدة المضادة للعلم والعقل لا يمكن التخلص منها إلا عن طريق الأدوات والمناهج العقلية التي لعبت الفلسفة دوراً مهماً في تغييرها على مر العصور.. ومن أجل تحديد أي من طرق التفكير الفلسفية يحتاج إليها واقعنا الحالي، لا بد في البدء من فهم موقعنا الحضاري في السياق التاريخي.

يمكن القول إن موقعنا الحضاري الذي نعيشه هو شبيه بالموقع الذي عاشته أوربا على وجه الخصوص في التحول من العصور الوسطى إلى عصر النهضة، الذي مهد الطريق للعصر الحديث.

إننا نعيش فترة من التغيرات، إلا أنها لم تحدث كما حدث في أوربا. إن التغيير هناك لم يأت خلال جيل أو جيلين، بل أخذ قروناً حتى تحرر العقل الأوربي من أنماط التفكير التي كانت تعيق مسيرة تقدمه.. إذ تمت إعادة بناء العقل من جديد على التطور العلمي، وانهيار سلطة الكنيسة والثقافة التي كانت تروجها. بمعنى أن التطور العلمي الذي سارت به أوربا كان طبيعياً، لكن ما حدث عندنا هو العكس، فالتغيير الذي حدث تم في البنية المادية بالدرجة الأولى، ولم يتزامن معه تغييرات علمية وفكرية وثقافية قادت إلى عملية إعادة بناء للعقل من جديد بناء على أسس علمية أو عقلانية تتلاءم مع هذه التغييرات.

لقد أصبحنا نعيش في واقع جديد، ونستخدم الوسائل التكنولوجية الحديثة، لكننا لا نفكر بالطريق والعقلية التي أنتجت هذه الأدوات أو صنعتها، وقد خلق هذا الوضع أشبه ما يكون بالازدواجية أو حالة فصام مع الواقع، بحيث يعيش المرء في واقع ويستخدم ما هو جديد، لكن يفكر بطريقة لا صلة لها بهذا الواقع ومستجداته، فينتج عن ذلك ممارسات لا تتفق مع أصول وكيفية استخدام ما هو جديد. ففي هذا الصدد يمكن تحديد عدد من الجوانب الفكرية التي تتسم بها طريقة التفكير السائدة في مجتمعنا، وأولها احتكار الحقيقة.

تنتشر ظاهرة احتكار الحقيقة بين الأفراد وشرائح اجتماعية مختلفة، وهي ذات طابع طائفي أو إيديولوجي أو عرقي أو ثقافي، إذ يعتقد الكثير أن ما يؤمنون به، أيّاً كان، هو الحقيقة، ومن يختلف معهم فهو على باطل. ويتسم هذا النمط من التفكير بالجمود، وفي الوقت نفسه بالشمولية، ومن نتائجه غياب أي شكل من أشكال الحوار، وتسيّد ظاهرة إقصاء الآخر، واستخدام العنف في أحيان كثيرة، والترهيب في فرض الآراء والاعتقادات على الآخرين. وقد نتج عن هذا الأمر صراعات عرقية وطائفية ساهمت في الابتعاد عن قضايا العصر، وتغليب قضايا- في حقيقتها وهمية- لا تقدم ولا تؤخر في شيء.

وتتسم هذه المرحلة أيضاً بالصراع الحاد والمتناقض بين طرفين:

الأول يسعى إلى التغيير، وإحداث نقلة نوعية في واقع المجتمع، والآخر يريد في أحسن الأحوال إبقاء الأمور على حالها.

أما النسخة المتطرفة فهي تسعى إلى العودة بالأمور إلى الوراء، ومحاربة كل ما هو جديد.. وهذا الصراع في طابعه فكري ما بين العقل والنقل، أي ما بين طريقة تفكير تحتكم للعقل وتسعى للتجاوب مع المتغيرات والمؤثرات الخارجية بطريقة عقلانية، وطريقة تفكير سلفية تنفر من التجديد، ولا تعرف التفاعل مع الآخر، وترى في الماضي الملاذ من التغيرات المدنية الحديثة، وما جاء معها من تطورات قيمية وحقوقية.

ومع الأسف لاتزال الغلبة في صالح القوى التقليدية والسلفية المدعومة، وقد نتج عن ذلك سيادة أنماط من التفكير لا صلة لها بطابع التفكير العقلاني والعلمي، مثل التفكير الغائي، وصياغة الأحداث بطريقة التفكير الخرافية أو الأسطورية، علاوة على إفراط البعض في الغيبيات، والدعوة إلى نبذ التفكير في عالم الواقع واستبداله بعوالم أخرى، وهذا في مجمله يعكس الأسس التي تقوم عليها عملية تفسير الطبيعة والواقع والظواهر والمشكلات التي تتم به.. فكل طرق التفكير غير العلمية وغير العقلانية تنطلق من أسس ذاتية صرفة في تفسير الظواهر والأحداث سواء في الطبيعة أو في واقع الحياة اليومي.

وهذا بلا شك يقف على النقيض من طريقة التفكير العلمية، التي تتصف بالموضوعية، ولا تتعلق تفسيراتها بالأهواء أو الرغبات الذاتية، ما ينتج عنه تعامل أدق مع الأحداث والأمور، وفهمها بطريقة منهجية، ومن ثم إيجاد الحلول التي يمكن أن تساهم في معالجتها.

وخلاصة القول.. إن طريق أو طرق التفكير السائدة في مجتمعنا ساهمت بشكل كبير في إعاقة أو إحداث تقدم ثقافي أو علمي حقيقي، مثلما كانت هذه الطريقة تعيق التقدم العلمي والثقافي في أوربا أثناء فترة العصور الوسطى، ولم تقم للتطور قائمة آنذاك إلا بعد أن تخلصت من طرق التفكير غير العلمية التي هيمنت عليها سابقاً.. فمن الواضح إذاً أن طريقة التفكير تلعب دوراً كبيراً في إحداث التغيرات الثقافية الفكرية في المجتمع.

 

العدد 1104 - 24/4/2024