بذور مهجنة

إيناس ونوس:

ينمو الجنين (ذكراً أم أنثى) في رحم الأم، ويخرج بعدئذٍ إلى رحم الحياة بالطريقة ذاتها والتفاصيل ذاتها، دون أيّ اختلاف بين الجنسين، وكما يُعطى هويةً واسماً وديناً بعد ولادته بدقائق معدودة يبدأ التعامل معه من منطلق التمايز الجنسي الذي سيمتد فيما بعد طيلة حياته، فإن كان ذكراً تنوعت أشكال الاحتفالات والبهجة في البيت وبين الأقارب تباهياً به، وكأنه أهم إنجاز قد قام به الأبوان في حياتهما كلها، ويتسع نطاق هذا التعامل فيشمل مسلكيات مختلفة، مثل السماح للأم مثلاً بتغيير ثيابه أمام الملأ (فهو ذكر وما من شيء معيب)، ومن ثم الرضوخ لطلباته والرضا عن تصرفاته الغريبة، كالصوت المرتفع أو التلفظ بألفاظ نابية، أو مناداته برجل البيت وعدم السماح له بالبكاء، وإطلاق صفات متعدّدة عليه (كالحريمة) إن عبّر عن مشاعره بالبكاء، فالرجال لا يبكون، أو عدم اللعب مع الفتيات من أقرانه، أو …إلخ الكثير من المسلكيات التي تُنمّي عنده حسّ التميّز عن الأنثى التي منذ ولادتها، وأحياناً منذ نموها في رحم أمها يتمُّ التعامل معها بطريقة مغايرة تماماً، فهي معيار الأخلاق والعفة والشرف، هي من يجب حمايتها لأنها ضلع قاصر، فلا يحق لها أن ترفع صوتها، فهو (عورة وعيب)، ولا يجوز أن تلعب مع الصبية ولا أن تهتم بما يهتمون، فمهامها مُحدّدة لها من قبل أن ترى النور وحتى آخر أيام حياتها.

في حقيقة الأمر، لا يخلق الإنسان بالفطرة ذكراً أو أنثى، التربية وحدها كفيلة بتحديد هذه المهام له، الاختلاف الوحيد اختلاف بيولوجي طبيعي لا يتعدى الفروقات بين أعضاء الجسد، أما من ناحية القوى العقلية ومعدلات الذكاء والاهتمامات والميول فلا علاقة لكل هذا بالجنس، وقد أكّدت دراسات عديدة أجراها العلماء أن كلا الجنسين يمتلك المقدرات والطاقات ذاتها إن توفرت الشروط التربوية والبيئية والتعليمية ذاتها لهما، وما نعيشه اليوم من متغيّرات فرضتها الأوضاع المعيشية يثبت صحة ذلك، حينما بدأت النساء والشابات والفتيات القيام بأعمال كانت حكراً على الرجال فيما سبق، وقد أثبتن جدارتهن في القيام بمثل هذه الأعمال، كما تؤكّد التجارب أنه لو فرض على الذكور القيام بالمهام التي كانت مُحدّدة للإناث فقط لامتلكوا القدرة على القيام بها أيضاً كالتربية والتعليم والقيام بأعمال المنزل أيضاً، وأكثر ما يدل على عدم وجود كل تلك الفوارق بين الذكور والإناث هو احتراف الرجال لمهن متنوعة وعديدة، نذكر منها على سبيل المثال الحلاقة والخياطة والطهي، فأمهر طهاة العالم هم من الرجال، وغالبية النساء يرغبن أن يصففن شعرهن عند حلاق رجل، فوجود هذه النماذج يدحض الأفكار التي نشأنا عليها وكل اعتقادنا سابقاً أنها من صنع الطبيعة، واكتشفنا لاحقاً أنها من صنعنا نحن البشر، وأنها تخدم مصالح معينة لفئات معينة استخدمت التكنولوجيا والتلفزيون ومناهج التعليم منبراً لها لتغرس أفكارها بذوراً مُهجّنةً في عقولنا فتسقيها وتغذيها لتنمو وتنمو وتعطي الثمار المطلوبة، بغض النظر عن طبيعتها الأصلية.

هذا ما تعلمناه في مناهجنا حينما كان بابا يقرأ بينما ماما تطبخ، باسم يدرس بينما رباب تساعد أمها، حتى في بعض دروس اللغة يوضع ضمير المذكر الغائب (هو) على الدوام قبل ضمير المؤنث الغائب (هي) في إشارة صارخة لهذا التمييز، إضافة إلى وجود إحدى أهم قواعد اللغة وفي كل لغات العالم المنطوقة على السواء والتي تقول: (إن جاء اسم مذكر واحد مع مجموعة أسماء مؤنثة عوِّض عنهم جميعاً بضمير المذكر، لأن التذكير أقوى من التأنيث!)، باعتقادي أن من أسّس لهذا النمط من التعليم هو ذاته من يساهم في نشر ما تبثه القنوات المتنوعة والمخصّصة للأطفال عبر برامج تستنزف جهوداً مضاعفة لتُعزّز هذه الفروق وتُنميها، في وقتٍ باتت بعض البذور تشذُّ عن قواعد التهجين الممارسة عليها رغبة منها في العودة للحياة الطبيعية والصحيحة، فهل سترى النور، أم أن منطق الفصل بين الجنسين سيتمكّن من وأدها قبل أن تبرعم؟!

العدد 1102 - 03/4/2024