على قلقٍ كأن الريح تحتي!

ريم داوود:

(لا تعلّي صوتكِ، أنتِ بنت! لا تضحكي بصوت عالٍ، أنتِ بنت! لا تركبي بسكليت، ما بيصير، مو إلك! روقي، هدّي، اعقلي، بلا نطوطة! شو بدّك بأخوك؟! هاد صبي وأنتِ بنت!

اتركلي هالألعاب لك أبي، مو إلك هدول، قوم لاقيلك لعبة للصبيان!).

كلّها عبارات طنّانة رنّانة لا تخلو البيوت من صداها..

يدرك الأطفال اختلافاتهم الجنسية في عمر مبكّر، ويلعب الآباء دوراً كبيراً في ترسيخ هذه المفاهيم في أذهانهم من خلال سلوكيات وألفاظ متكرّرة يلجؤون إليها عمداً أو سهواً، نتيجة لما تربّوا عليه وعهدوه من آبائهم.

نحيا ضمن مجتمع ذكوري تحكمه عادات وتقاليد ذكورية، وعلى الرغم من أن معظم الأهل لا يسعون إلى التمييز بين أبنائهم وبناتهم، إلاّ أنهم في الحقيقة يفعلون ذلك عن غير قصد، إذ تتأثّر النساء والفتيات بالتمييز القائم على النوع الاجتماعي أكثر ممّا يتأثر به الرجال أو الفتيان، لكن هذا لا ينفي تأثّر الذكور به.

ويؤكّد علم النفس في هذا الصدد أنه من المهم، بل من الضروري على الوالدين مراعاة مشاعر أبنائهم، فمثلاً عليهم عدم منع الفتيات من القيام بأعمال الذكور إن هنَّ أردنّ ذلك، لأن منعهنّ قد يؤدي إلى الشعور بالغيرة والحسد، ممّا يؤثّر سلباً على مستقبل الأبناء، فالتفريق في المعاملة بين الأطفال ليس أمراً سهلاً بالنسبة لهم، والاهتمام بالأبناء بعناية متساوية مسؤولية الأب والام معاً والتمييز بينهم لأيّ سبب هو مشكلة لا يدرك الآباء عواقبها إلاّ بعد فوات الأوان، فكيف إن كان ذاك التمييز قائماً على أساس النوع الاجتماعي؟

كثيراً ما يجري الخلط بين مفهومي الجنس والنوع الاجتماعي (الجندر)، فمفهوم النوع الاجتماعي يشير إلى الفوارق الاجتماعية المكتسبة بين الذكر والأنثى، ويحدّد النوع الاجتماعي ما للذكر وما للأنثى من أدوار ومسؤوليات وامتيازات، وفرص وقيود وممنوعات حسب ثقافة المجتمع السائدة، فمثلاً تكتسي النساء السواد في الحزن، بينما يلبس الرجال ما يشاؤون وكأن الحزن حكرٌ على الإناث، أو أن قيادة السيارة حكر على الرجال، كما كان سابقاً في السعودية.

يولد الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق، لكن التمييز القائم على النوع الاجتماعي أو ما يعرف بمصطلح (الجندر) يسلب الانسان حقه في الحياة. نعم، يسلب الانسان حقة في الحياة عندما يمارس عليه عنف قائم على أساس النوع الاجتماعي، قد يصل إلى حدود التهديد والإكراه واستخدام القوة وإلحاق الأذى بالآخرين.

إننا كأصحاب قرار مسؤولون عن نمو أطفالنا وتوجيههم لا ندرك مدى الأذى الذي نلحقه بهم إزاء هذا التوجيه الممنهج، والذي يحدّ من قدراتهم وطاقاتهم الكامنة، كما يقف عائقاً أمام تحقيق أحلامهم المستقبلية.

فهل قيادة الشاحنات حكر على الذكور فقط؟ أم أن أعمال المنزل وواجباته إلزام على الإناث فقط؟ وهل تحزن النساء عند اكتسائها الأسود أكثر ممّا يحزن الرجال؟ أم أن توجيههن حسب النوع الاجتماعي جعل الامر حكراً عليهن؟

في حديث دار بيني وبين والدتي، كانت توجّه لي العتب محدثة إيّاي ببعض من اللوم كيف أنني لم ألبس ملابس سوداء على الرغم من مضي فترة العزاء المفروضة لكلٍّ من جدّي وجدّتي، فأجبتها: وهل مشاعري تختلف عندما أرتدي الأسود؟ أي هل أكون أكثر حزناً يا أمي عندما أكتسي السواد؟ أجابت: لا، لكن ذلك واجب.

أضفت: نعم لقد أتممت الواجب أيام العزاء، وأظنُّ أن مشاعري لن تختلف، فالحزن شعور يعتري القلب والباطن، ثم لماذا لا يطالب الذكور بارتداء الأسود إن كان ذلك واجباً، أوليس الحزن يخصّهم أيضاً؟ أم أن النساء وحدهن من عليهنّ أن يحزنّ!؟

تنهّدت وأضافت: إنها عادات وأنت الآن تريدين تغييرها!

نعم، أريد تغيير هذه العادات البالية، عادات مبنية على التمييز والجندرة، لا أدري من الذي فرض على النساء دون الرجال هذا النوع من التقاليد؟ وما العبرة من اكتساء الأسود لشهور وسنوات دون جدوى؟ هل سيعود المتوفى؟ أم أننا نخاف التغيير والمواجهة؟ نخاف قيود المجتمع وأحكامه البالية!؟

كثيرة هي الأمور التي تقيّدنا وتكبّلنا منهيةً حريتنا في المسير ومتابعة الحياة بشكل طبيعي تحت ذرائع وحجج باطلة تطفو على السطح، لكن أساسها معروف ومبني على تمييز وفق النوع الاجتماعي، كم من أحلام طفولية هُدَّتْ؟ وكم من مشاريع مستقبلية مُسِحَتْ من ذاكرة شبّان وشّابات وجَهْنَ وفقاً للنوع الاجتماعي حسب المرفوض والمسموح، لا حسب ما يتمنون ويحلمون، فهل نسعى نحن اليوم كآباء وأمهات مثقفات واعيات إلى تغيير هذا الواقع، أم أننا نركب الموجة ذاتها ونجدّف مع التيار؟!

العدد 1102 - 03/4/2024