معركة الاستمرارية.. أُطلقت

سعيد محمد:

عشيّة الذكرى الـ60 لإفشال غزو خليج الخنازير، انعقد، بدءاً من يوم الجمعة الماضي وعلى مدى ثلاثة أيام، المؤتمر الثامن لـ (الحزب الشيوعي) الكوبي في العاصمة هافانا. وترأّس الجلسةَ الافتتاحية، التي أمّتها وفود من أحزاب شيوعية مناصرة، راؤول كاسترو (السكرتير الأوّل للجنة المركزية للحزب)، بحضور خوسيه رامون ماتشادو فينتورا (السكرتير الثاني)، وأعضاء المكتب السياسي الـ17 كافة، ورئيس الجمهورية، ميغيل دياز كانيل. وينعقد، كلّ خمس سنوات، مؤتمر عام لـ(الحزب الشيوعي) الذي يضمّ 700 ألف عضو عامل، أَرسلوا هذه المرّة 300 مندوب عنهم لمناقشة الخطوط العريضة لسياسة الدولة الاقتصادية والاجتماعية. وتتمثّل في المؤتمرات، التي كان لها أثر ملموس في تطوير الممارسة الاستقلالية والنظام الاشتراكي في كوبا، قطاعات الشعب كافة، عبر مندوبين حزبيين من مختلف المناطق والتجمّعات والهيئات، إضافة إلى الكوادر السياسية العليا، وكبار موظّفي الدولة، وقادة الجيش، وأعضاء الجمعية الوطنية (البرلمان) المنتخَبين.

وفي معرض تقديمه تقريرَ اللجنة المركزية إلى المؤتمر، قال كاسترو إن (كوبا حافظت على إنجازاتها الاجتماعية المهمّة في مجالات التعليم والرعاية الصحية والضمان الاجتماعي، على رغم تكثيف الحصار الاقتصادي الأمريكي القاسي المفروض على الجزيرة منذ ستّة عقود). لكنّه أعرب، في الوقت ذاته، عن انفتاح القيادة الكوبية على حوار يتّسم بالاحترام لبناء نوع جديد من العلاقات مع الولايات المتحدة، مؤكداً أن (كوبا لن تتخلّى أبداً عن الثورة والاشتراكية). كذلك، دعا إلى تحسين أداء مختلف قطاعات الاقتصاد المحلي، وتدعيم العلاقات مع الحكومات والأحزاب في مختلف دول الجنوب، لا سيما الصين. وكما صار معروفاً، أبلغ كاسترو المؤتمر قرارَه التنحّي عن منصبه كسكرتير أوّل للجنة المركزية للحزب، ليخلُفه دياز كانيل في أعلى مناصب النظام السياسي في كوبا. وهو قرارٌ رافقه آخر، بإعلان نائبه خوسيه ماتشادو التنحّي عن منصب السكرتير الثاني، ما يُخلي المكتب السياسي للحزب من آخر قدامى المحاربين الذين قادوا ثورة 1959 وقاتلوا مع زعيمها فيديل كاسترو. وتوافقت القيادة، خلال المؤتمر، على تحديد سقف 60 عاماً لعضوية اللجنة المركزية، و70 عاماً لتولّي مناصب السكرتارية (الأمانة العامة)، بداية من نيسان (أبريل) الحالي. وجرى خلال المؤتمر انتخاب 17 عضواً لعضوية اللجنة المركزية للحزب، كما تقرَّر تنفيذ أوسع برنامج لمنح النساء والأقلّيات العرقية تمثيلاً أوسع في الهيئات الحزبية كافة، لا سيّما القيادية منها. وعلى رغم أن الصحافة الغربية حاولت تصوير الأمر وكأنه انتهاء لمرحلة (آل كاسترو) في كوبا، فإن النظام الكوبي ليس مؤسّسة عائلية، بل منظومة أكثر تطوّراً ومرونة وتعقيداً من أكثر أنظمة الحكم في العالم.

وفور انتهاء الكلمات الافتتاحية، شرع المندوبون في مناقشة أفكار نظرية مبنيّة على الممارسة في الحزب والدولة خلال الفترة الماضية، والبحث في طرائق وحلول عملية ممكنة لتحديث النموذج الاقتصادي – الاجتماعي للبلاد، فضلاً عن مراجعة أداء هياكل ومنظّمات الحزب على مدى السنوات الخمس الماضية. وقد أتى هذا المؤتمر في وقت تعاني فيه كوبا من أزمة اقتصادية متفاقمة، فقد اجتمعت تداعيات الوباء والانكماش الاقتصادي نتيجة انهيار القطاع السياحي، كما نقْص الإمدادات بسبب الحصار التجاري الأمريكي، لتخْلق أجواء من تراجع الثقة والإحباط على مستوى الشارع، واهتزاز المساواة الاجتماعية التي طالما كانت نموذجاً يُحتذى به في أمريكا اللاتينية. وعلى رغم أن الدولة الكوبية شرعت، منذ بعض الوقت، في تنفيذ إجراءات لفتح المجال لممارسة الأعمال الفردية الخاصة، وعدّلت من أسعار التحويل بين الدولار والبيسو، إلّا أن عوامل الضغط الخارجية لم تسمح لتلك الإجراءات بتحقيق تغيير نوعي بعد في بنية اقتصاد الجزيرة. ويخشى البعض في هافانا من أن الدولة قد تضطر قريباً لدفع حوالى مليون موظّف في القطاع العام إلى تقاعد مبكر، الأمر الذي سيكون بمثابة ضربة موجعة للكثير من العائلات التي يقتصر دخلها على الرواتب. لكن الأغلبية تدرك أن لا خيار لكوبا في التخلّي عن حرّية كسبتها بالدماء والنضال المستمرّ، وأن إسقاط النهج الاشتراكي سيكون بمثابة ردّة إلى أيّام العبودية لرأس المال الأميركي. ومن هنا، بدت ثيمة (الاستمرارية) غالبة على أعمال المؤتمر، واعتُمِدَت شعاراً له.

لا تزال الدولة الكوبية، على رغم كلّ شيء، أقرب إلى الأسطورة العالمية في دينامية نظامها الصحّي وفاعلية نظامها التعليمي وشمولية نظامها الاجتماعي. وبينما كان العديد من اقتصادات العالم الكبرى يتخبّط في مواجهة الأزمة الوبائية، تدفّقت الخبرات الكوبية إلى كلّ بلد استعان بها من إيطاليا إلى إسبانيا وعبر الكاريبي وأميركا اللاتينية (تُصدِّر كوبا كوادر طبيّة رفيعة المستوى، وتشمل منظومة الرعاية الاجتماعية فيها جميع المواطنين من دون استثناء – 11 مليون نسمة) ، فيما انتقلت، حالياً، إلى مراحل الاختبارات المتقدّمة على لقاح محلّي لـ(كوفيد 19)، سيمكّن الجزيرة من منح الحصانة لمواطنيها جميعهم ومساعدة شعوب العالم، وربّما فتح نافذة للسياحة العلاجية إلى البلاد. وفيما تسرّع العديد من دول الغرب عمليات إنتاج لقاحات بدأت تثير المتاعب، تبدو توقُّعات الخبراء متفائلة بالفعل في شأن الاختبارات التي تُجرى على اللقاح الكوبي، علماً أن الجزيرة تُخطّط لإنتاج 100 مليون جرعة مع نهاية العالم الحالي.

هكذا، وبينما يجري التسويق في أوساط يسار أمريكا لتراجع كوبا عن الاشتراكية، وتبنّيها خيارات رأسمالية الطابع، لا تُظهِر الإدارة الجديدة في البيت الأبيض أيّ رغبة في الحدّ من إجراءات تصعيد الحصار التي اعتمدتها إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، فيما تمتنع دول العالم الأخرى عن مدّ يد العون للشعب الكوبي. ولكن 11 مليون محاصر في جزيرة بعيدة، يقدّمون للعالم نموذجاً يُحتذى به في العمل السياسي الجماعي، والصمود أمام الهيمنة، والتمسّك بالاستقلال.

(الأخبار)

العدد 1102 - 03/4/2024