الحكي ببلاش

كندي أحوش:

المواجهة الكبرى ستكون مع الصين، هذا ما تشي به كل التحضيرات، فالصين تقترب من سيادة العالم اقتصادياً، وهي قوة ضاربة ونفوذها في دول مستعمرات العالم القديم الذي (تركه الغرب المستعمر يفلّي قمله بيديه) يتعاظم ويمتد في كل الاتجاهات.

تسابق الصين الزمن في عقود شراكة اقتصادية غير مسبوقة مع هذه البلدان، بما يهدد بتقليص موارد القارة العجوز من ثروات هذه الشعوب ومن أسواقها.

 

المواجهة الكبرى مع الصين ليست نزهة وليست مضمونة النتائج، وتتطلب تحضيراً جيداً لعل حجر الأساس فيه هو إضعاف الحلفاء الأقوياء المحتملين للصين، أو تحييدهم وإخراجهم من دائرة المواجهة. ومن هنا تكون جبهة المواجهة مع روسيا على تخومها الجنوبية خطوة متقدمة في هذا الاتجاه.

 

كييف

كانت كييف موطناً لنشوء أول كيان للشعب السلافي في أوراسيا منذ حوالي ١٢٠٠سنة، والسلاف هم بأسماء اليوم شعوب روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا وبلغاريا وصربيا وبولونيا وغيرهم، وكانت دوقية موسكو لا تزيد عن إحدى حواضر السلاف الشمالية يحكمها نبلاء سلافيون شماليون (روس).

 

المغول

امتد نفوذ المغول المحاربين شبه الرحل وشمل سهوب روسيا وسيبيريا، ووقعت كييف في قبضتهم ودمرت كلياً، أما الموسكوبيين فلم يقاتلوا، بل استوعبوا الخسارة وهادنوا المغول، فدان لهم إدارة الشمال، وامتد نفوذهم تحت سقف التتار على مساحات شاسعة فحافظوا على نفوذهم وثروتهم، بينما تراجع دور كييف ومكانتها عملياً وبقيت ساحة صراع لقرون لاحقة تنتقل من نفوذ إلى نفوذ من البولون للنمساويين ولترك القرم والبلغار وغيرهم. وفي جل هذه النزاعات بقيت غرب أوكرانيا مترابطة بمصير البولون وتبعتهم في كاثوليكيتهم، بينما بقي الشرق الأوكراني مع كنيسته البيزنطية الأورثوذكسية.

هذه المرحلة بالذات شكلت الخط الفارق بين السلاف الروس والسلاف الأوكران، وشرق أوكرانيا وغربها.

 

موسكو

بعد انحسار نفوذ المغول كان من الطبيعي أن ترث موسكو إمبراطورية روسية واسعة تضم كل الأرض التي وحدها المغول وربحوا السيطرة على القوقاز وكل سيبيريا، ولاحقاً استطاع الروس مع القيصرة إيكاترينا إعادة كامل أوكرانيا للسيطرة الروسية، وقامت بحملة واسعة لتوطين الفلاحين السلافيين في القرم، لتقليص النفوذ العثماني في المنطقة، بينما بقيت غرب أوكرانيا مع البولون، وأعيد توحيدها مع شرق أوكرانيا بعد الحرب العالمية الثانية.

 

القرم

عند تقسيم السوفييت لاتحادهم إلى جمهوريات وأقاليم استندوا إلى مختلف العوامل العرقية والخصوصية التاريخية والجغرافية، فأصبحت روسيا بلاداً متنوعة الأعراق والتاريخ والثقافات واللغات وكل ما يخطر على بال، وتضم العشرات من الجمهوريات والأقاليم ذات الحكم الذاتي في داخلها، وكذلك الأمر في أغلب الجمهوريات التي شكلت الاتحاد السوفياتي حينها.

ولعل الجامع الأكبر لهذه الشعوب اليوم كان وما يزال تعاضدها في القرن العشرين لدحر النازية، ولذلك يعتبر هذا العيد الأهم في تلك البلاد حتى الآن جامعاً لكل شعوب روسيا والاتحاد السوفياتي السابق، ويعتبر، إلى جانب التحدث بالروسية، الحاضنة النفسية الجامعة الأهم في البلاد.

عند تقسيم الأقاليم بقيت شبه جزيرة القرم ضمن الكيان الروسي لأهميتها العسكرية لأسطول البحر الأسود حامية الحدود الجنوبية.

في الذكرى الخمسين لتأسيس الاتحاد السوفييتي تم تقديم القرم هدية لأوكرانيا لالتصاقه بالبر الأوكراني، فأصبح رسمياً جزءاً من أرض أوكرانيا السوفييتية.

 

سيفاستوبل

بعد تفكيك الاتحاد السوفييتي واستقلال أوكرانيا تمكنت النزعات المعادية لهيمنة الروس من السيطرة على الحياة السياسية، وقادت بالتدريج إلى تنامي القطيعة والصراع مع روسيا، الصراع الذي لم تهتم روسيا أو ما كانت تجيد إدارته لمصلحتها وصولاً إلى الإعلان عن عدم تجديد حق استخدام مدينة سيفاستوبل في القرم كمقر لأسطول البحر الأسود الروسي، وكان ذلك تهديداً مباشراً استراتيجياً لأمن روسيا كدولة كبرى في المنطقة، وعند تيقن روسيا من أن هذا الخطر هو واقع محقق لا محالة، قامت بخطوة استباقية ومن طرف واحد مخالفة للقانون الدولي، وأعادت ضم القرم للأراضي الروسية وأجرت انتخابات، وربطت لاحقاً القرم بالبر الروسي بجسر عبر البحر الأسود، واحتفظت بنفوذها العسكري وأسطولها في الجنوب.

 

أوكرانيا

عموماً يمكن تقسيمها إلى شرق أرثوذوكسي ذو حضور روسي كبير نسبياً وراغب عموماً في الحفاظ على العلاقة التاريخية مع الشعب الروسي، وغرب كاثوليكي هو بصورة عامة شبيه بالبولنديين معادٍ للروس ويحمل نزعة العداء لهم.

وتجلت ذروة هذه الكراهية في تحالف أغلبيتهم وأغلب البولون مع النازية في اعتدائهم على الشعوب السوفيتية عموماً.

 

مسلمو القرم

تعرض مسلمو القرم وغيرهم من الشعوب التي كان يشك في ولائها لروسيا إبان الثورة البلشفية وقبيل الحربين العالميتين الاولى والثانية لإعادة توطين في مناطق الشرق الروسي النائية ومنها كازاخستان، وأصبح ذلك من الجروح المتقيحة للحقبة الستالينية. وهم اليوم يتململون بأصوات متصاعدة ويطالبون بإعادة الاعتبار لمهجريهم وإعادة توطينهم في أرض أجدادهم.

وهنا بالذات وجدت تركيا اليوم هامشاً لوضع قدمها في هذه الأزمة الروسية الأوكرانية، ولربما تستعد لحضور أكبر من خلال وصايتها على مسلمي القوقاز، إذا ما أضعفت الحرب شكيمة روسيا وأوكرانيا.

 

المايسترو

الولايات المتحدة الأمريكية اليوم تحاول إغلاق ملفاتها المفتوحة مع العالم الإسلامي من خلال الانسحاب الاطلسي من أفغانستان واتفاقها مع طالبان في الدوحة مؤخراً والذي يتم ترتيبه بسرعة، ومن ناحية أخرى يجري تسويق النصرة كقوة إسلامية معتدلة من خلال ربطة العنق التي أطل بها الجولاني على الأمريكيين في بيوتهم. وترميم العلاقة مع تركيا العضو الأطلسي الأهم في هذه المواجهة مع الروس.

 

الاستعدادات

في هذا السياق ستكون سورية أكثر أهمية لروسيا من أي وقت مضى كنقطة مواجهة متقدمة في حلبات الصراع الجديدة في القرم وشرق أوكرانيا، وسيكون للتحالف الروسي الإيراني فرصة في التقوية بعد فشل مساعي تفكيكه.

على الأغلب سيواجه الغرب روسيا بدماء الأوكرانيين وتسويق حربهم بأنها دفاع عن (أرض الأجداد) مع أنهم_ الأوكران والروس_ (دافنين الشيخ زنكي سوا، وبيعرفو قصة الحدود والشعوب وكيف انرسمت، شي بيشبه سايكس بيكو لعنهما الله)،

وبالطبع لا ننسى دماء الإسلاميين المستعدة لكل الحروب الاستخباراتية، ومرتزقة تركيا من السوريين وباقي القوى الإسلامية التي تعمل تحت عمامة الأتراك.

أمريكا الآن تنقل عدتها وعديدها لإشعال الحروب جنوب روسيا وان نجحت ستنتقل لاحقاً إلى الصين، وبدأت بالسماح بتحضير المسرح والجمهور لتصبح معاناة المسلمين الأويغور لاحقاً هي المهمة رقم واحد في العالم.

أوربا الغنية لديها شراكات اقتصادية مهمة مع روسيا، لذلك تسير متثاقلة في الركب الأمريكي، أما أوربا الفقيرة (أو الشابة كما أسماها بزمانه جورج بوش)، ستسير في المقدمة طمعاً في حصةٍ ما ثمناً لمواقفها.

نحن في سورية سنكون وللأسف إحدى ساحات هذه المواجهات وصندوقاً لإرسال الرسائل المتبادلة وتلقّيها.

 

السقيفة

لا أدري ما إن كان التاريخ يعبث بنا أم أننا نحن من نعبث بالتاريخ، ولكن المؤكد أن لكل شعب قصة شبيهة بقصتنا في سقيفة بني ساعدة وأن العواطف الجياشة المستحضرة من هذه السقيفة لاتزال قادرة على السيطرة على أفعالنا وخياراتنا في حاضر اليوم وعلى تكبلنا بأوهام السقيفة وزمانها وظرفها ومكانها.

لسنا الوحيدين الذين مازالوا قابعين تحت السقيفة، فلكل شعب سقيفته التي لم يخرج بعد من تحت دلفها، وربما لسنا كما نتوهم الأكثر تعصباً وحماسة وجهلاً وقسوة.

العدد 1102 - 03/4/2024