في حيوية العقل النقدي

عباس حيروقة:

بغضّ النظر عن موقف الدين من التنجيم والفلك، هل يتعارض أم يتفق.. وبغض النظر أيضاً عما أتت به وعليه القوانين الوضعية الناظمة لسياسات الدول، من دعم وتشجيع مختلف العلوم من فيزياء ورياضيات وطب وفلسفة، ورصد ميزانيات كبيرة لدعم الإبداع بمختلف أبوابه وتصنيفاته والاختراع والصناعات …الخ.

ولكن ثمة ظاهرة تتكرر، بل ظواهر أخرى تنمو وتنتشر بشكل سرطاني مخيف، ساهمت وتساهم إلى حدّ بعيد في زعزعة الاستقرار النفسي والاجتماعي في بلداننا العربية عموما وفي سوريتنا على وجه الخصوص، إن لم نقل إنها تقوم على تأسيس ثقافة مغايرة لكل ما تربى عليها أو قرأ عنها مواطننا السوري الباذخ نبلاً وحضارة.

ومن أهم هذه الظواهر التي يمكننا التطرق له وبحيوية هو التجييش الإعلامي لثقافة التنجيم.. قراءة الطالع.. التنبؤ.. الأبراج.. الفلك …الخ من مصطلحات لاشك تتفق وتلتقي في بوتقة علم الغيب، الشعوذة أو ما يشابهها، ويتجلى ذلك قبل نهاية كل عام بأيام، ومع بداية العام الجديد، إذ تفرد معظم المحطات العربية بما فيها محطاتنا الوطنية تلك الآفاق للمنجمين وتسوّق لهم ولثقافتهم.. والأسئلة كثيرة وجمة وهامة جدا تلك التي يمكن طرحها ولكن من أهمها:

هل هذا يتفق مع سياسة جمهوريتنا العربية السورية وثقافة موطننا السوري الممتدة لآلاف السنين من الوعي والعقل والحب!؟

هل نحن بحاجة إلى ثقافة كهذه، ثقافة التنجيم والخرافة وقراءة الطالع والأبراج …الخ في مرحلة مخيفة كدّست على عتبات بيوتنا، خلال سنوات الحرب العجاف، أسوأ ثقافة وأشدها رعباً، ألا وهي ثقافة الموت وتقطيع الأوصال وبقر البطون.. ثقافة الحقد والكره والموات!

كم على إعلامنا الوطني الاشتغال على ثقافة تنهض بواقعنا الاجتماعي والأخلاقي والثقافي!

وكم تقع علينا جميعاً وعليه مسؤوليات جمة تجاه أجيالنا هذه التي تشكلت، في ذهنيتها وذاكرتها، ثقافة امتدت لسنوات عشر متناقضة تماماً مع ثقافة سورية الأصالة.. سورية الجمال والخير والسلام.

هي مسؤولية جماعية تقع على عاتقنا جميعاً.. وعلى جميع المؤسسات الثقافية والتربوية  في هذا البلد العظيم.. علينا تعزيز ثقافة الإبداع والعلم والاختراع.. ثقافة الطب والأدب والشعر والموسيقا.. ثقافة القانون والمواطنة والتشاركية وحرية الرأي.. والإعلان عنها وبالفم الملآن وتنظيم برامج خاصة لتعزيزها والاحتفاء بها.

نعم، نحن بحاجة إلى ثقافة السوري الأول الذي أسسها منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام حين نقش بعضها على رقم طيني أكتشف في اوغاريت، والذي يختصر حيوية ذاك العقل المهيب، رقم نقشت عليه الجملة التالية: (اعبد ما تشاء ولو كان حجراً ولكن لا ترمني به)!

إذاً، هذا هو السوري الحقيقي، وهو القائل أيضاً منذ أكثر من خمسة آلاف سنة قبل الميلاد – بحسب مصادر موثقة في معظم مخطوطات متاحف العالم –  في رسالة منسوبة للإله السوري بعل إذ قال : (حطم سيفك وتناول معولك واتبعني لنزرع السلام والمحبة في كبد الأرض، أنت سوري وسورية مركز الأرض).

نعم، هي ذي ثقافتنا الحقة التي كنا وما زلنا وسنبقى ننادي بها، ثقافة البناء والمحبة والسلام لأن لا يليق بنا نحن كسوريين سواها.. فلنعمل معاً من أجل سورية مركز الأرض على نبذ ثقافة القبح والقتل والعصبية.. ثقافة العفن والكهوف وأبناء العتمة.. لأننا نحن أبناء الشمس.. أبناء الحياة.

هي صرخة علينا جميعاً أن نطلقها في وجه هذا القبح الذي يسود العالم، داعين إلى البحث وبكل السبل عن نوافذ نطل من خلالها على الجمال، على الخير، على الحب.. وأن نعمل على تعزيز ثقافة النقد والتفكر والحوار، ثقافة الانتماء إلى وطن بحجم فراته ودمشقه وسنابل قمحه!

وختاماً لا أجد أبهى وأبلغ من قول فيلسوف بحجم أفلاطون أنهي به مادتي، لتكون دعوة لنا جميعاً للتفكّر والتفكر والتفكر إذ قال: (نحن مجانين إذا لم نستطع أن نفكر، ومتعصبون إذا لم نرد أن نفكر، وعبيد إذا لم نجرؤ أن نفكر).

العدد 1104 - 24/4/2024