رأي متأخر حول عمل مهم
محمد عاصي:
احتلت القضية الفلسطينية مكاناً هاماً في وجدان شعوبٍ كثيرة تواقة للحرية، وتيارات سياسية ثورية متعددة، وقد تناولها كثيرون من صنّاع الدراما والسينما باعتبارها مادة غنية ومليئة بالتفاصيل الانسانية، وأضفوا بصمتهم عليها.
ومن أهم هذه الأعمال، إن لم يكن أهمها مسلسل (التغريبة الفلسطينية)، وهو مسلسل سوري عُرِضَ في 2004، فقد استطاع المبدعَان وليد سيف وحاتم علي، وهما أبناء تجربة التغريب والنزوح، ومعهم طبعاً العديد من الفنانين السوريين والأردنيين والفلسطينيين، لا يسعنا المجال لتسميتهم الآن، استطاعوا إنجاز عمل أقل ما يقال عنه إنه اختصر مأساة انسانية مدة ٣٥ سنة تقريباً – يُصور المسلسل الفترة التاريخية الممتدة من 1934 حتى 1967- في عمل فني واحد، واستطاعا عبره إنعاش ذاكرة الجيل المعاصر لفترة النكبة، وإلهام ذاكرة الأجيال التي لم تعاصر تلك المأساة، وغذّتها بصورٍ ومشاهد أبدع الفنانون في تأديتها. خصوصاً أن الاحتلال الصهيوني يعمل بجد ويراهن على طمس الثقافة الفلسطينية من ذاكرة الأجيال عبر السنين؛ وحرب الثقافة لا تقل أهمية عن الحرب النارية في لحظة التحرير.
المهم في هذا العمل ليس تناول القضية ونبش الذاكرة الفلسطينية المتعلقة بالنكبة وحسب، على أهمية ذلك، وإنما في محاولته تحليل المجتمع الفلسطيني خصوصاً والعربي عموماً، في مرحلة ما قبل النكبة، والتصويب على التناقضات الطبقية والاجتماعية في تلك الفترة، وأزمة البحث عن هوية التي تجلت وفرضت نفسها بقوة في ذلك الوقت، وفيما بعد النكبة، عبر الحوارات والتجارب التي تعيشها الشخصيات.
في أحد المشاهد يتحدث عليّ مع أبو صالح (وهو أحد قادة الثورة الفلسطينية):
(حياتنا في الريف بتختلف عن حياة أهل عكا والقدس ونابلس وحيفا.. وأنت يابو صالح تعاملت مع كل الناس أثناء الثورة.. وساعة ضرب النار بتغيب الفروقات بين الناس).
مع اختلاف أشكال الحياة ونمط الإنتاج في الريف عن المدينة، إلا أنه لحظة (ضرب النار) أي لحظة الثورة، غابت الفروقات، وأصبح الحلم بالتحرير هو المسيطر على الناس.
كما أن العمل تناول الإنسان الفلسطيني المقهور والمصدوم بسخف العالم الدولي، وتناول أيضاً حالة الخذلان التي انتابته من الحكومات العربية المتقاعسة، وربما الخائنة، التي وعدته بأن الأمر لن يطول، وأن المسألة مسألة وقت، وأنه بالمفاوضات سوف يحل كل شيء وما عليه سوى الانتظار فقط… وما زال ينتظر إلى وقتنا هذا يوم استعادة حقوقه المشروعة، متطلباً دائماً وباحثاً عن أسباب حياته بشتى الوسائل، ومتهماً أي جهة تسعى لتأمين عيشه في الغربة بأنها تحاول أن تطيل في عمر أزمته.
لقد أبدع الكاتب وليد سيف على لسان الراوي الذي يؤدي صوته الفنان تيم حسن في نقل تلك الفكرة حين قال: (منذ اليوم سيكون على اللاجئ أن يعيش هذه المفارقات الحادّة المؤلمة، موزّعةً دائماً بين حاجاته المادية المباشرة، ومطلبه الوطني العام، وما كان لهذين المطلبين الشرعيَّين، أن ينسجما في نفسه إلّا نادراً، سيطالب بتحسين أوضاعه، ومع ذلك سيواجه كلَّ خطة في هذه السبيل بالشك، خِشية أن يكون الثمن ذاكرته وقضيته ووطنه، سيكون عليه أن يشك في نيّات من يعرضون عليه شيئاً مما يريد، وسيبدو لغزاً غريباً ومحيّراً ومزعجاً لأولئك الذين لم يُعنّوا أنفسهم بفهم الدوافع العميقة والمسوغات الواقعية لكل تلك المفارقات والمشاعر المتطاحنة).
في نهاية الحديث ربما من الجدير المقارنة بين عمل كالتغريبة الفلسطينية، وبعض الأعمال الخليجية المدفوعة من قبل بعض أنظمة الحكم المستسلمة؛ والتي حاولت في الآونة الأخيرة أن (تُمَكْيج) الوجه القبيح للكيان المحتل، وتقديمه على أنه الجار الودود والمسالم وتتكلم عن حقوق تاريخية مزعومة له، تزامناً مع إعلانات من هنا وهناك عن تطبيعٍ لعلاقات مع الكائن المسخ المسمى (اسرائيل)، طبعاً ليس هناك مجال للمقارنة وشتان بين أعمال كاذبة تسعى لتشويه وقلب الحقائق المنطقية والتاريخية، وعمل يعتبر صرحاً من صروح الدراما السورية.