الموت مرّة أخرى.. بل مرّات ومرات
عباس حيروقة:
قلنا غير مرّة ومن على غير منبر أيضاً، إن الموت يبقى هو اللغز الأكثر تعقيداً، والذي حار العلماء والفلاسفة والمفكرون والأدباء في تعريفه أو تفسيره أو تأويله.. بل على العكس تماماً، فكلّما حاولوا فكّ بعض رموزه انبسطت أمامهم رموز ورموز ورموز.
الموت وأسئلته الكبيرة والكثيرة تطرح بكثرة وبالصوت الملآن علينا جميعاً، لا سيما في العقد الأخير الذي نعيشه والذي يعتبر الموت من أهم عناوينه.
الموت الذي يخطف أو يسدل ستاره على من شاء رب العزة.. الموت الذي يزورنا وبلا مواعيد.. بلا استئذان.. بلا مواقيت، فيرسم لوحته السوداء حين يشاء ومتى يشاء وأنى يشاء وعلى أي القلوب يشاء، فيبسط جلبابه ويرتفع العويل ويترك القهر والحرمان والغربة والوحشة تجثم قبالة هذه الدار أو تلك.
يا ألله!
هل الله سبحانه وعظم شأنه يقهر عباده بالموت.. أم يكرمهم بالموت؟
وهل للموت فضائل.. وهل هو رحمة؟!
لن نفلسف الموت أكثر مما هو عليه.. ولن نطالب بخطبة تجيب على بعض هذا..
ولكن ما يمكننا قوله عن الموت إنه خلّف الكثير الكثير وراءه من القهر والبكاء والعويل والحرمان، وهشّ أمامه قطعان الفقد والوحشة في قلوب العباد، لا سيما في الساعات او الأيام القليلة الأولى من وقوعه.
حين دخول الأم أو الزوجة أو الأب البيت لأول مرة بعد دفن الفقيد! البيت الذي ألف صوته لا بل حفظه.. البيت الذي نوافذه وقبضات بابه وجدرانه وشجيراته، بل وحصى الدار، حفظوا مواويله.. ضحكاته.. بعض أحاديثه.. حفظوا شكواه.. تسبيحاته وصرخات قهره ومناجاته مولاه، حين فقد وقهر وموات.
كرسيّه الذي اعتاد علي..عصاه.. نظاراته.. سبّحته.. سعاله..
الحيّز الكبير الكبير الذي شغله في ذاكرة أهل بيته.. وحارته..
يا الله! صدق من قال: كل شيء يبدأ صغيراً ويكبر إلا الحزن والفجيعة تبدأ كبيرة وتصغر.
إنه النسيان.. نعمته، وإلا لوجدنا الناس نازفة متصدعة القلوب وفاقدة العقول نتيجة وقوع فعل الموت عليها.
ويبقى الوجع كبيراً بسبب الفقد والوحشة والغربة.. ويبقى الموت موتاً
إلا أنه رحيم حين يتعلق بامرئ يملأ الليل صراخاً وأنيناً نتيجة المرض وتداعياته..
والشيء الآخر الذي يمكن الإشارة إليه هو تلك الحالة الروحية الشفيفة التي تتلبّس عباد الله حين جنازة أو عزاء ما.. سبحان ربّ العزة كم نبدو أبرياء أتقياء أنقياء.. إخوة في الطين والرغيف والشمس.. ولكن ما الذي يجري بعد انقضاء هذا الطقس الكهنوتي المهيب؟!
يعود جلّنا إن لم نقل كلنا إلى التكشير عن أنيابه، وتلمع عيناه بحثاً عن فريسة هنا أو هناك ننهشها دون رحمة أو شفقة.. ويعودون يكنزون الذهب الفضة.. وإلى ممارسة أفعالهم اللا إنسانية.. والأخ يعادي الأخ ويسيء للجار ويمارس كل ما من شأنه إفساد الحياة والمجتمع..
يعود جلّنا إن لم نقل كلّنا إلى متابعة رسم اللوحة الأكثر قبحاً، والتي ألوانها من دم الأطفال والعصافير..
نعم، يعود جلنا بعد إتمام مراسم العزاء إلى الإسراع بدفن ما تبقى من جمال وقيم ومحبة.
وأختم بمقولة الشاعر الكبير محمود درويش (الأرض جميلة وعليها ما يستحق الحياة).
لنعمل معاً في سبيل إنجاز اللوحة الأجمل والأهم.. لوحة الحياة التي نستحق..
اللوحة الباذخة.. الطافحة جمالاً.. ونوراً وضوءاً!