هل انتهى عصرُ العبوديّة؟

إسكندر نعمة:

تاريخيّاً… انتهى عصرُ العبوديّة.  انتهت عبوديّةُ الإنسان والأرض باندثارِ عصرِ القنانة.  لم تعدِ الأرضُ ومَنْ عليها ملكاً لسيّدها.  تلاشى عصرُ القنانةِ البغيض، وانتهى بعده عصرُ الإقطاع المظلم.  زالت طبقةُ الإقطاعيّين والنّبلاء، وحلّت محلَّها طبقةُ البورجوازيّة الصّناعيّة والتّجاريّة، وأفرزت طبقةَ الرَّأسماليّين والعلاقاتِ الرّأسماليّة، التي حملتْ في رحِمِها ومن خلال تناقُضاتِها بذورَ الانتفاضِ عليها، مُفرِزةً المواقفَ المعاديةَ للرّأسماليّة، متسلِّحةً بالأفكار الاشتراكيّة والنّزاعِاتِ الطّبقيّة التي تحملُ في ثناياها إرادةَ التّغييرِ والتَّحرُّرِ نحوَ آفاقٍ جديدةٍ خلاّقة.

أعودُ لِأُؤكِّدَ.. انتهى عصرُ العبوديّةِ تاريخيّاً.. إلاّ أنّنا الآنَ ونحنُ نبني حياتنا الاجتماعيّة عبرَ الرُّبعِ الأوَّلِ من القرن الحادي والعشرين، نشهدُ في السّاحةِ الاجتماعيّةِ الدَّوليّةِ، والعربيّةِ تحديداً، عبوديّةً من نوعٍ آخر.  عبوديّة لا ترتبطُ بالأرضِ والإنتاج، ولا بنزعةِ التّملُّكِ والإقطاع: إنّها عبوديّةٌ بشريّةٌ من نوعٍ آخَر: إنها (العبوديّةُ الجنسيّة).

في بعضِ مُجتمعاتِنا العربيّة، وأخصُّ بالذِّكرِ مجتمعَي اليمن وموريتانيا،  تبرزُ على صفحةِ الحياةِ الاجتماعية، فضائحُ عبوديّةٍ جنسيّةٍ، ضحاياها أطفالٌ إناثٌ يُتاجَرُ بهنَّ على أيدي سماسرةٍ مُتخصِّصين، لِتحويلِهنَّ خلالَ فترةٍ قصيرةٍ من الزّمن إلى مُستَعبَداتٍ جنسيّاً.  مآسٍ يوميّة تجري أحداثُها على مرأى ومسمع الحكوماتِ العربيّةِ، وسفاراتِ العالَمِ كلِّه في العواصم العربيّة.

فضائحُ أخلاقيّة، تجري فُصولُها بين موريتانيا والسّعوديّة.  فضائحُ تشكِّلُ ظاهرةً من العبوديّةِ الجنسيّة.  إذ تُحوَّلُ بموجبِها الفتياتُ الموريتانيّاتُ إلى مُستعبداتٍ جنسيّاً في قصور رجالٍ سعوديّين أثرياء.  وقد نقلَتْ أمينة المختار (رئيسةُ إحدى منظَّمات المجتمع المدنيّ)، التي تُعنى بحقوقِ المرأة، نقلَتْ تفاصيلَ سيرِ عمليّةِ هذه العبوديّة، مِن منازل فقراءٍ في موريتانيا إلى قصورِ أثرياءٍ في السّعوديّة:

بدايةً، يتولّى سماسرةٌ (تُجّارُ بشرٍ) مهمّة زيارةِ منازل هذه الأُسَر الموريتانيّةِ التي تعيشُ في حالة فقرٍ مُدقع، شريطةَ أن يكون لدى هذه العائلات أطفالٌ إناثٌ تتراوحُ أعمارُهنَّ بين التّاسعةِ والثّانية عشرة.  يقدِّمُ هؤلاء السّماسرةُ عرضاً لِذوي الطِّفلةِ بتزويجها من رجل سعوديٍّ ثريٍّ جدّاً، مُقابلَ مبلغٍ ماليِّ كبيرٍ نسبيّاً يتراوحُ بين 5 – 6 ملايين (أقّيّة)، وهي العُملةُ المتداوَلَةُ في موريتانيا، وتبلغ قيمة هذا المبلغ حوالي 20000 دولار أمريكي، مع بذل الوعودِ لِذوي الطّفلةِ بتوفيرِ الحياةِ السّعيدةِ لطفلتِهم، بهدف إغرائهم للموافقةِ على العرض.  وبحسبِ إفادةِ أمينة المختار يكونُ هؤلاء السّماسرةُ مرتبطين بوكالات سفريّاتٍ محليّة، لا تعدو أن تكون غطاءً للعمل الحقيقيّ وهو الاتّجارُ بالبشر. وبعد موافقَةِ الأهلِ، تُصطحَبُ الطّفلةُ إلى السّعوديّة بمرافقةِ أحدِ موظّفي وكالةِ السّفريّات بصفتِهِ (مُربّياً)، ويُمنَحُ هذا المربّي عمولةً ماليّةً كبيرةً مكافأةً له على جهوده في عقدِ الصّفقة، وتختلِفُ هذه العمولةُ من طفلةٍ إلى أخرى، حسبَ جمالِ هذه الطّفلةِ المُستعبدةِ وسنِّها ونُموِّها الجسديّ. وحالَ وصول الطّفلةِ السُّلعةِ إلى المملكة، تُحَوَّل إلى مُستعبدةٍ جنسيّةٍ لزوجها السّعوديّ (الشّهم).  وتدومُ فترةُ الاستعبادِ هذه حتّى تُصبحَ الفتاةُ حاملاً. عندئذٍ يُرمى بها بعيداً وتصبحُ مادّةَ تجاهُلٍ كاملٍ من زوجِها (المُفتَرَض)، لأنّه يكونُ مشغولاً بالبحث عن عقد صفقةٍ جديدةٍ أخرى. تُرمى الطّفلةُ الحاملُ إلى الشّارعِ بلا أيّةِ حمايةٍ أو رعاية، تتناهبُها الأيدي المُلوَّثة.  فلا خيارَ أمامَها إلاّ أن تصبحَ (مومِساً). وقد استطاعت (لالا عائشة) وهي ناشطةٌ في مُنظّمة حقوق الإنسان في موريتانيا، أن تُقابلَ فتاةً موريتانيّةً أمضتْ 3 سنوات من عمرها سجينةً في غرفة واحدة من منزل رجلٍ سعوديٍّ. لم تتعرَّف خلال هذه السّنوات الثّلاث على أحد سواه وإلى خادمةٍ تُشرفُ عليها لمصلحتِه.  وقد نُشِرَ لعددٍ من النّاشطين في مجال حقوق الإنسان تقاريرُ عديدةٌ، بعضُها تضمَّنَ شهادةَ طفلةٍ اسمُها (ملهري)، تبلُغُ من العمر 9 سنوات، اشتراها رجلٌ سعوديّ ثريّ وضمَّها إلى سلعِه، إضافةِ إلى قصّةِ فتاةٍ أُخرى اسمُها أيضأً (أمينة)، استطاعتْ مُؤخَّراً أن تهربَ بعد أن رماها زوجُها السّعوديّ، ولكنّها اضطرَّت أن تتركَ طفلَها في السّعوديّة لِتنجوَ بنفسِها من السّقوطِ في حمأَةِ الدَّعارة.

وفي هذا السّياق تحدَّثتِ النّاشطةُ (أمينة المُختار) عن نوعٍ آخرَ من العبوديّةِ الجنسيّة، تقومُ على استقدامِ نساءٍ موريتانيّاتٍ بالغاتٍ إلى السّعوديّة بقصدِ تشغيلهنَّ مومساتٍ من دون أن يدرينَ ذلك مُسبقاً. وفي هذا المجال، فإنّ وكالات السّفر تعرضُ على أولئك النِّسوة توفيرَ ثمن تذكرةِ السّفر وتكاليف تأشيرةِ الدُّخول إلى السّعوديّة، علَّهُنَّ يجدْنَ عملاً في المملكة ينقذُهُنَّ من الفقر والجوع. ولكن يجبُ عليهنَّ تسديدَ هذه النّفقات لوكالات السّفر فورَ عثورِهنَّ على فرصةِ عمل.  وبالتّالي، ولأنّ فُرصَ العمل لهُنَّ مفقودة، يُرغَمْنَ على ممارسة الدّعارة لِسَدادِ الدُّيون. وما يدلّ على ذلك أنّ 30 امرأَةً موريتانيّةً حُكِمَ عليهنَّ بالسّجن لممارسة الدّعارةِ في السّعوديّة.

تدلُّ أرقامُ منظَّمةِ (ربّاتُ البيوت) الموريتانية أنّها توفِّرُ الدَّعمَ لأكثرَ من150 طفلة كلَّ سنة كنَّ ضحايا للعبوديّةِ الجنسيّة في السّعودية. وأنّه قد تمَّ تسجيلُ أكثر من 20 حالة عبوديّةٍ جنسيّةٍ جديدةٍ بين شهري كانون الثاّني وآذار للعام 2010.

إنّ القاصرات الموريتانيّات، لَسْنَ الضّحايا الوحيدات للاستغلال الجنسيّ وعبوديّةِ المرأة وتجارةِ البشر.  فقد أشارت بعضُ تقارير منظّمات المجتمع المدنيّ إلى ظاهرةِ السّياحةِ الجنسيّة التي يقومُ بها رجالٌ خليجيّون وسعوديّون إلى مدُن اليمن المُختلِفَة لممارسةِ الجنسِ مع فتياتٍ قاصراتٍ في فنادقَ يمنيّةٍ تنتشرُ في كلِّ أرجاء اليمن، وتحملُ أسماءَ حضاريّةٍ توحي بالرُّقيِّ والمدنيّة..  وليس خافياً على أحدٍ أنّ موضوع السّياحة الجنسيّة لا يقتصِرُ على اليمن بل يتعدّاهُ إلى دولٍ عربيّةٍ أخرى غنيّةٍ بالآثار والمناظر الطّبيعيّةِ الخلاّبة والمتنزَّهات، يؤمُّها الكثيرون من الشبّان السّعوديّون والخليجيّون تحت مبرِّراتِ السّياحة والاستجمام.  ينزلُ أحدُهم في أضخم الفنادق لمدّة أسبوع أو أكثر، لكنّهُ لا يغادرُ غرفتَهُ أو جناحَهُ في ذلك الفندق مطلقاً، ولا يقرعُ بابَهُ إلاّ سماسرةُ الدّعارة والمتاجرات بأجسادهنَّ..  فأين ذلك من السّياحة والاستجمام.  وأخيراً يعودُ (السّائحُ المزعوم) خاليَ الوفاض بعد أن دخل الفندق مُترعَ الجيوب بالأموال والشّيكّات.

ليست هذه العبوديّةُ الجنسيّةُ حكراً على بعض الدّولِ العربيّة، بل تتعدّاها لتنتشرَ بشكلٍ أو بآخر في كثير من البلدان الأفريقيّة. حالاتٌ يصعبُ حصرُها وتعدادُها. فعلى سبيل المثال، فإنّ بعض التّقارير الإحصائيّة التّابعةِ للأمم المتّحدة تفيدُ أنّ أكثرَ من 1100 امرأة يُغتَصبْنَ يوميّاً في جمهوريّة الكونغو في وسط القارّة السّوداء..  وقد كشفت دراسةٌ تابعةٌ للمجلس المركزيّ للإحصاء التّابع للأمم المتّحدة، أنّ أكثرَ من 400 امرأة وفتاة اغتُصِبْنَ في فترة 12 شهراً بين عامي 2009 و2010 في ذلك البلد الإفريقيّ الشّاسع والذي تعصفُ به رياحُ النّزاعاتِ الإثنيّة والاجتماعيّة والقبليّة. وقد أفادت (أمبير بيترمن) وهي ناشطةٌ وباحثةٌ اجتماعيّة، أنّ هذه الأرقام إنّما تؤكِّدُ انتشارَ ظاهرةِ العنفِ الجنسيّ والعبوديّة الجنسيّة، على الرّغم من أنّها أقلُّ من الواقع بكثير.  ولكنّها تُشكِّلُ تحذيراً جدّياً لِمدى انتشار ظاهرةِ العبوديّة الجنسيّة.  كما أعلنتِ الباحثةُ أنّ وقائع العنف الجنسيّ والاغتصاب لا يُعلَنُ عنها كلُّها بسبب التّنكيل الذي يلحقُ بضحاياها والإحساس بالعار الذي ينتابُهُنَّ، وقناعةُ المُغتصِبين بالإفلاتِ من العقاب لأنّهم (إيدهم طايلة وجيوبُهم مُنتفخة).  كما أكَّدتِ الباحثةُ أنّ منظّمة حقوق الإنسان تَرى أنّ أعمالَ العنف الجسديِّ والعبوديّة الجنسيّة قد تضاعفت بعد انتهاء عام 2009، وأنّ حجمَ هذه الممارسات يفوقُ تقديرات المنظَّمة بكثير.

ترى.. هل انتهى عصرُ العبوديّة؟!

العدد 1102 - 03/4/2024