مفهوم الصفوة.. وتغيّره بين الماضي والحاضر

يونس صالح:

من هم الصفوة في المجتمع؟ وهل تظل معايير تحديد الصفوة ثابتة لا تتغير من عصر إلى عصر، أم أن هذه المعايير تختلف وترتبط بتغيّر أشكال الثروة وأنماط الإنتاج والمكتشفات العلمية؟

كان السائد منذ فترة غير طويلة أن صفوة الأمة هم أصحاب النفوذ والثراء والثقافة فيها، وكان السائد أيضاً فيما يتعلق بمقاييس الرقيّ في أيّ أمة، هو عدم انفصال العناصر الثلاثة عن بعضها البعض. أي أن يكون أصحاب الفكر، وأصحاب الثراء من كبار المثقفين، وأصحاب المناصب الكبيرة مستمتعين بالحياة الطيبة الهانئة.

وعندما كان يُرى أن أثرياء المجتمع لا علاقة لهم بفكرٍ راقٍ، أو أن المديرين والوزراء لا يتمتعون بثقافة واسعة، أو أن المثقفين يعيشون عيشة فقر، كان يُحكَم على المجتمع بأنه متأخر، أو على الأقل غير قادر على التقدم.

إن عدم القدرة على التقدم يحدث، وخاصة في عصور التغيرات العنيفة، نتيجة عدم الوعي بنوع المستقبل الذي يفرض نفسه، وبسبب الجهل بالحاجات الجديدة للمجتمع. وعندما يسود هذا الجهل وتنعدم الرؤية الصحيحة للمستقبل، يختلط الحابل بالنابل، وينتشر القلق والاضطراب، فتنعدم القدرة على التقدم.

ولقد تغيّرت مواصفات الصفوة بتغيّر نوع الحضارة، ففي وقت قصير نسبياً، انتقل الثراء من أصحاب الأراضي الزراعية إلى أصحاب المصانع والبنوك، أو إلى القائمين عليها، وتغيّرت مواصفات المثقفين والفنانين بتغيّر المذاهب الفنية والمدارس الأدبية، وتغيّرت مواصفات أصحاب المناصب والنفوذ من أفراد يدعون إلى قيم الحضارة الزراعية ويحافظون عليها، إلى أفراد ينتمون إلى مبادئ الحضارة الصناعية ويتمتعون بمهاراتها، والآن تنهار الحضارة الصناعية بكل قيمها ونظمها، ليس بسبب ضعف الإنتاج الصناعي، وإنما بسبب ظهور تقنية جديدة، فرضت الهجرة الواسعة من مهنة الصناعة إلى مهن أخرى حديثة، تماماً كما انهارت من قبل الحضارات الزراعية بسبب الهجرة الواسعة من الزراعة إلى الصناعة.

وبانهيار الحضارة الصناعية، تتغيّر صفوة المجتمع، من أفراد يمتلكون المصانع أو يسيطرون عليها، ومن مديرين يعملون على تدعيم نظم الحضارة، ومن مثقفين يدعون إلى قيمتها، إلى أفراد يدركون شكل الحضارة الجديدة، ويؤمنون بمعتقداتها ويدفعون مجتمعاتهم إليها.

وقد أدت التقنية الجديدة إلى مضاعفة إنتاج السلع الزراعية والصناعية، فكان من نتائج هذا أن اشتدّ تنافس المنتجين لتصريفها، واشتدت تطلعات الناس نحو استهلاكها، وظنّت الأغلبية أن زيادة استهلاك البضائع تعني دخولهم في زمرة (الصفوة)، ذلك أنهم لم يدركوا أن زيادة الاستهلاك هذه كانت من مواصفات الأثرياء عندما كان الإنتاج محدوداً، أما في ظل الحضارة الجديدة، فلم تعد كثرة الاستهلاك من مواصفات الصفوة، فالصفوة- بحكم التعريف- لا يمكن أن تكون أكثرية.

 

حضارة جديدة تبحث عن صفوتها

في كل حضارة تقوم صفوة المجتمع من المديرين بإدارة الإنتاج، وتقديم الحلول لما يظهر من مشكلات، وقد انحصر معظم العمل في الحضارتين السابقتين في الإنتاج الزراعي والصناعي، وانحصرت المشكلات فيما يهدد انتظام هذين الإنتاجين، أما الإنتاج الأساسي للأغلبية في الحضارة الجديدة، فهو إنتاج الخدمات والمعلومات، وهو إنتاج يختلف في طبيعته عن السلع، ويحتاج في إدارته إلى ألوان جديدة من الكفاءة والموهبة.

وفي كل حضارة تقوم الصفوة بتدعيم قيم هذه الحضارة، وذلك بإقامة المنشآت التي تدعو إلى معتقداتها، وتشجيع معتنقيها، وتحفيز المتفوقين في مهاراتها. وقد كان دور الصفوة في الحضارات السابقة محصوراً في تدعيم قيم المجتمعات الزراعية ثم الصناعية، فجاءت الحضارة الجديدة لتتطلب أدواراً أكثر إبداعاً.

 

محنة الصفوة الجديدة

وقد أدى هذا الاختلاف الكبير بين مواصفات الصفوة في الحضارتين السابقتين ومواصفاتها في الحضارة الجديدة، إلى إصابة المثقفين والمديرين والأثرياء- غير القادرين على التأقلم- بشعور عنيف من الإرهاق والإحباط والمرارة والإحساس بالمذلة والمهانة وضآلة الشأن، فحاولوا إسقاط فشلهم هذا على بعض الرؤساء أو الوزراء، دون أن يدركوا أن الأخيرين هم أيضاً ضمن الصفوة غير المتأقلمة- المصابة مثلهم بالحيرة والقلق والاضطراب، وبالتالي بأمراض القلب أو الضغط أو النفس.

لقد ملأ الكتّاب الصفحات الكثيرة يشكون فيها أزمتهم، وامتلأت المعارض والمسارح بكل الأعمال الغاضبة، ورأينا السخط يسود المجالس والمؤتمرات، بل حتى الأثرياء امتلأت منتدياتهم بالتذمّر والشكوى، دون أن يكلف أحد نفسه بتوجيه السؤال الهام: (لماذا نعيش عصراً لا تتطابق فيه مواصفات الأنواع الثلاثة من الصفوة)، والإجابة عن هذا السؤال هي: (إن تطابق هذه المواصفات لن يتحقق إلا إذا اشترك الجميع في بناء الصفوة الجديدة على أسس الحضارة القادمة).

الخلاص لن يكون إلا إذا آمن المثقفون بفكر جديد يؤهلهم لأن يصبحوا من أهل الصفوة والنفوذ، وإلا إذا عاش أصحاب النفوذ حياة تؤهلهم لإصدار القرارات الصحيحة لحل مشكلات الحضارة الجديدة:

– الحروب يجب أن تتوقف، وذلك بالإسراع في القضاء على أشكال التعصب: القومي، والديني، والعنصري… والوقوف أمام نفوذ تجار السلاح وألاعيبهم.

– التلوث يجب أن يتوقف، والتزايد السكاني يجب أن يتوقف أيضاً، والتعليم المتخلف يجب أن يتوقف وأن يحلّ محلّه تعليم جديد يشجع الفكر الحر والإبداع، والإدارة المتخلفة يجب أن تتوقف، وأن يتوقف كذلك تسلّط المديرين.

وهكذا، في كل شرور الحضارة الصناعية، كالبيروقراطية والمركزية والنمطية، يجب أن تعيها الصفوة الجديدة كل الوعي، لكي تدعو إلى نبذها، وإعداد الناس لاجتنابها.

إن مقدرة الإنسان على التأقلم لا حدود لها، فالإنسان الذي استطاع أن يغوص إلى أعماق البحار، ويسير على سطح القمر، لا بد قادر على أن يعيش حضارة الخدمات والمعلومات. والتغيرات التي يصادفها الإنسان طوال الوقت، ليست حتمية فقط، بل إنها الحياة نفسها، فالسكون هو الموت بعينه، وكلما زادت التغيرات نوعاً وشدة، زادت قيمة الفرد الذي يستوعبها ويتأقلم معها.

 

العدد 1102 - 03/4/2024