السوريون قالوا كلمتهم آن أوان الإصلاح

21/ 06/ 2011

كدّست البشرية تجارب وخبرات عظيمة، إذ شهد الأجداد طغيان الرأسمالية وعصر الاستعمار، وحربين عالميتين ونشوء النظام الاشتراكي العالمي، وتحول العالم إلى نظام القطبين. وشهد الأبناء والأحفاد عهد التحرر الوطني وولادة الدول الفتية في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، والثورة العلمية والتكنيكية، وانهيار التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي، وتفرد الولايات المتحدة والرأسمالية العالمية بقيادة النظام العالمي الجديد. لقد شهد الجميع أحداثاً كبرى، وأدركوا قوة الإنسان الخلاقة، وكيف تدفعه دائماً إلى أمام، إلى آفاق أرحب. وتَوصل الناس في أنحاء العالم إلى حقيقة كرّسها الفكر الإنساني العالمي، وهي أن الإنسان هو محور وغاية أي تقدم وتطوير. وتقاس الأنظمة السياسية اليوم بمدى قربها أو ابتعادها عن تلبية الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية لشعوبها.

في سورية تأخر النظام السياسي كثيراً في استيعاب هذه الحقائق، وكانت ذرائعه لتبرير تأجيل تلبية الحقوق السياسية للمواطن غير مقنعة، رغم المشاريع الإصلاحية التي طرحت منذ سنوات.

السوريون قالوا كلمتهم أخيراً. فسّرها البعض في الداخل بأنها مناسبة لصبّ الزيت في أتون فتنة نائمة منذ زمن طويل.. واستغلها الخارج فرصة لفتح حسابات قديمة، وإحياء لمشروع إقليمي خبيث يسعى إليه القطب الأوحد. لكن أكثرية السوريين قالوا كلمتهم غير عابئين إلاّ بحقيقة واحدة أصبحت راسخة في أذهانهم آن وقت النقلة النوعية في حياتنا. نحن الموعودون منذ عقود بديمقراطية تستوعب طموحنا واختلافنا وتلاقينا وغيرتنا على أرض يتشرّف من يطأ ترابها، ويُكرّم من يشرب من مائها، فالحناجر المكبوتة لا تصدح بالأناشيد.. والأيدي المكبلة لا تصنع خبزاً جيداً.. والأفكار المصادرة لا تضع خطة ناجحة.

قالوا كلمتهم، وهم يعلمون أن خيارهم سيحمل الديمقراطية والتقدم والعيش المشترك لجميع أطيافهم السياسية والاجتماعية والدينية والإثنية، ويحقق تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة بدلاً من اقتصاد السوق الحر من كل القيود الحكومية والاجتماعية والإنسانية، والذي كان سبباً رئيسياً من أسباب الغضب الشعبي الواسع الذي عبرت عنه جماهيرنا منذ بداية الأحداث في البلاد. خيارهم هذا سيقوي وحدتهم، ويحمي وطنهم، الذي ينال اليوم شرف تحوله إلى مالئ الدنيا.. وشاغل أدمغة الإدارة الأمريكية وشركائها الأوربيين، تلك الأدمغة المكفّن في ثناياها حنين قديم لزمن قديم، تفوح منه رائحة حرائق الهنود الحمر والعبيد.. وتوابل جوهرة التاج.. ودماء حفاري قناة مصر المحروسة.

السوريون يستعدون لحقبة جديدة، لكنهم قلقون، فأولئك الذين ستتضرر مصالحهم ومواقعهم من عملية الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي لن يقفوا مكتوفي الأيدي. ومن عششوا في زواريب اللون الأوحد.. والرأي الأوحد.. والقرار الأوحد، لن يتحملوا الانفتاح نحو الآخر الوطني المسالم.. وحرية الآخر.. وحق الآخر، وربما يلجأ هؤلاء إلى أكثر الأساليب دهاء وخسة في محاربتهم لحقبة طال انتظارها. فبعضهم يحاربون الإصلاح بمنطق الإصلاح، فيرفعون شعار التغيير باتجاه المرجعية الواحدة، والسقف المحدود، المحكوم بالنصوص القاصرة عن استيعاب متطلبات جماهيرنا المتطلعة إلى إلغاء جميع السقوف، ما عدا سقف واحد هو منعة الوطن وحرية الشعب، لذلك يحاولون أخذ المطالب الإصلاحية المشروعة بعيداً عن سياقها السلمي المشروع، ويستخدمون العنف والسلاح لجر البلاد إلى فتنة طائفية بغيضة، ويعرقلون المشاريع الإصلاحية المتعددة التي صدر بعضها. والباقي قيد الدراسة والمناقشة الواسعة. وهناك من يستخدم أساليب العنف غير المبرر في وجه تحركات سلمية بشكل مخالف لتعليمات القيادة السياسية للبلاد، فيسقط الضحايا الأبرياء من الطرفين، ويدفعون بتصرفهم هذا أعداداً كبيرة من المشاركين إلى التشكيك بجدوى الإصلاحات المعلنة.

أما الذين يعلنون معارضتهم لعملية الإصلاح بذريعة تهديدها لنهج سورية الوطني، فغاب عن ذهنهم أن تلبية الحقوق السياسية والاجتماعية للشعب السوري سيجعل هذا النهج الوطني أكثر ثباتاً وقوة، وحدها حرية المجتمع وتعدديته السياسية والاقتصادية، هي من تصلب النهج الوطني للبلاد، إذ تضع طاقات المجتمع الخلاقة.. الحرة.. المبدعة في خدمة قضايا الوطن الكبرى، وفي مقدمتها تحرير الجولان العزيز على قلوب جميع السوريين.

إن وضوح عملية الإصلاح المتعدد الجوانب وشموليتها وسرعة تنفيذها، سيقطع الطريق على العصابات التي لجأت إلى السلاح، وترتكب في كل يوم مجازر وحشية بحق العسكريين والمدنيين، كما يضيق الخناق على جميع المشككين بالعملية الإصلاحية، ويحجم تأثيرهم في الداخل، ومن يدعم بعضهم في الخارج، ويعزز قناعة جماهير الشعب السوري بقرب تحقيق مطالبه السياسية والاجتماعية.

ودون شك، سيكون للحوار الوطني الشامل الذي نأمل بسرعة عقده، والذي دعونا سابقاً لأن يضم جميع الأطياف السياسية والفكرية والدينية والإثنية، دور أساسي في توحيد رؤية السوريين لمسار عملية الإصلاح في البلاد. إنه الاستحقاق الأبرز في الوقت الصعب، لذلك يجب العمل على إنجاحه مهما تطلب هذا النجاح من مشاورات وصبر وتنازل من جميع الغيورين على وحدة الوطن وتلاحم الشعب. وقد أشار السيد رئيس الجمهورية في خطابه الأخير إلى أهمية الحوار الوطني وضرورة إنجاحه، إذ عده (عملية مهمة جداً، ويجب أن نعطيه فرصة، لأن نجاح مستقبل سورية يبنى على هذا الحوار، الذي يشارك فيه مختلف الأطياف الموجودة على الساحة السورية).

 

النور 489 (22/6/2011)

العدد 1104 - 24/4/2024