فنزويلا الغنية …حصار جائر وتضخّم مفرط
يُعد التضخّم الجامح (Hyperinflation) كارثة اقتصادية كبرى، فهو تضخم سريع جداً وخارج عن السيطرة، ويحدث عندما تكون زيادات الأسعار كبيرة لدرجة يعجز معها مفهوم التضخم عن وصف الحالة الواقعية لأي اقتصاد، ما يجعل المستهلكين يحتاجون إلى عربات مليئة بالمال لشراء الضروريات اليومية مثلاً.
ويُعدّ ذلك النوع من التضخم كارثةً أيضاً لأنه يعني بشكل أو بآخر موت العملة المصابة به، فحينما تنخفض قيمة عملة دولة ما بشكل حاد؛ يفقد المواطنون الثقة فيها وينظرون إليها على أنها ذات قيمة ضئيلة، وتالياً يبدأ الناس في اكتناز السلع والبضائع التي لها قيمة وتخزينها ظنّاً منهم أن هناك زيادة قادمة في أسعارها، ومع ارتفاع الأسعار تصبح السلع الأساسية كالغذاء والدواء شحيحة، ما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار مرات عديدة في دوامة تصاعدية.
نتيجة لذلك، تضطرّ الحكومة لطباعة المزيد من الأموال، في محاولة لتحقيق الاستقرار في الأسعار وتوفير السيولة ما يؤدي إلى مزيد من تفاقم المشكلة، وهو ما يحدث في فنزويلا حالياً.
التضخم المفرط في فنزويلا
صرح البنك المركزي الفنزويلي مؤخراً، أنه سيوسّع نظامه النقدي من خلال إصدار ثلاث أوراق نقدية جديدة، من بينها واحدة تبلغ قيمتها مليون بوليفار، في ظل التضخم الجامح الذي تعاني منه البلاد.
وقد ارتفعت في عام ٢٠٢٠ نسبة التضخم بين كانون الثاني وتشرين الثاني فبلغت 3045.92 في المئة، وقال البنك المركزي الفنزويلي إن الأسعار ارتفعت 46.6 في المئة.
وكانت فنزويلا التي تواجه أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخها الحديث، ويشهد اقتصادها انكماشاً للعام السابع على التوالي، سجلت في 2019 نسبة تضخم بلغت 9585.5 في المئة، حسب البنك المركزي الفنزويلي.
وانخفضت قيمة العملة المحلية، البوليفار، مع ارتفاع سعر الدولار في هذه الدولة المنتجة للنفط، التي تعاني أعلى معدل تضخم في العالم.
وأفاد تقرير حكومي أمريكي بأن العقوبات التي فرضتها واشنطن على فنزويلا أسهمت على الأرجح في التدهور الاقتصادي في هذه الدولة الأمريكية الجنوبية.
ويأتي تقييم (مكتب المحاسبة الحكومي) الذي طلب نواب ديمقراطيون إجراءه، في وقت يستعد فيه الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن لتصحيح السياسة المتبعة تجاه فنزويلا، مع الإبقاء على هدف الإدارة السابقة غير المثمر في الإطاحة بالرئيس الاشتراكي نيكولاس مادورو.
وقال التقرير: (إن العقوبات الأمريكية يرجح أنها أسهمت في تراجع الاقتصاد الفنزويلي، وبشكل أساس عبر الحد بشكل أكبر من عائدات صادرات النفط الخام).
وأضاف أن (مشتري النفط الفنزويلي إما ابتعدوا وإما فاوضوا على أسعار أدنى بسبب العقوبات التي فرضتها إدارة دونالد ترمب على شركة النفط الحكومية الفنزويلية)، من دون أن يعطي أرقاماً، مشيراً في الوقت نفسه إلى عوامل أخرى وراء التدهور بينها سوء الإدارة.
التدرج الزمني للمشكلة
بدأت بوادر الأزمة لعدة أسباب، وقبل الانهيار التدريجي لأسعار النفط عالمياً، ولكنها ظهرت بشكل فعلي وأولي عندما انهارت عائدات الصادرات النفطية على خلفية الأزمة المالية والاقتصادية العالمية في عام 2008، وأدّى استمرار انخفاض أسعار النفط منذ عام 2014 إلى تفاقم المشكلة، ثم كان لانهيار أسعار النفط في عام 2016 دور في تفاقم الأزمة الفنزويلية، خصوصاً أن البلاد تعتمد على واردات النفط بشكل أساس.
إضافة إلى عدم قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على المواجهة السياسية والعسكرية وفشلها، فتعمد كما هو معلوم لسياسة الخنق والحصار والتجويع وتلجأ للحرب الاقتصادية والأمثلة كثيرة على مدار التاريخ، كما يحدث اليوم من حرب اقتصادية على الدولة السورية، ومنذ عهد الرئيس الراحل تشافيز ثم الرئيس الحالي مادورو لم تتوانَ واشنطن عن إقرار العقوبات والسياسات التي من شأنها محاربة الشعب الفنزويلي في لقمة عيشه وحصاره، لتحصل بالاقتصاد ما عجزت عنه بالسياسة، إضافة إلى الفساد الحكومي، ذلك أن فنزويلا تمتلك أكبر احتياطي من النفط في العالم، ولم تبدأ المقاطعة الاقتصادية عليها الا بعد ما عُرِف بـ(اجتماع دول ليما) في آب من العام 2017، بالتالي ليس هناك من ذريعة تبرّر حال الفشل الاقتصادي المُريع التي وصلت إليها، سوى سوء الإدارة الحكومية لثروات البلاد الضخمة، لكن التدقيق في الحال الفنزويلية يظهر أن العقوبات الاقتصادية الأمريكية لم تكن سوى المرحلة الأخيرة من مراحل الحرب الاقتصادية التي شنّتها واشنطن ضد كراكاس، والتي استهدفت صناعة النفط فيها، وأدّت بالنتيجة إلى خفض عائدات البلاد من تصدير النفط اليوم إلى 20% فقط مما كانت عليه في عهد الرئيس السابق هوغو تشافيز، ما ألحق ضربة قاصمة بالاقتصاد الفنزويلي المُعتمد على تصدير النفط بنسبة 96%.
والنفط الفنزويلي، على عكس نفط الشرق الأوسط، يقع معظمه على عمق كبير في باطن الأرض وفي المياه الإقليمية تحت البحر، ما يستلزم تقنيات مُتقدّمة لاستخراجه، لكن شركات النفط الغربية، منذ أقدم تشافير على تأميم صناعة النفط وتوزيع عائداتها على الفقراء، نفّذت مقاطعة شاملة لفنزويلا، وامتنعت عن تزويدها بتقنيات صيانة آبار النفط، بل إن شركة (أونوكو) الأمريكية، التي كانت تتولّى إدارة جزء كبير من صناعة النفط في البلاد، قامت بالحجز على المصفاة الأكبر في فنزويلا في (كوراساو) التي كان النفط يُكرَّر فيها قبل تصديره، ما أدى إلى وقفها عن العمل لفترة طويلة، بالتالي ليس هناك معنى لامتلاكك احتياطات ضخمة من النفط ما دمت غير قادرٍ على استخراج معظمها، فحتى الاتحاد السوفياتي بكل تقدّمه العلمي لم يكن قادراً على الاستفادة من جزء كبير من الغاز والنفط في مياهه الاقليمية.
وهنا يكمن الخطأ الاستراتيجي الذي وقعت فيه قيادات هذا البلد المسالم، فقد دفعت وفرة الذهب الأسود الحكومات التي توالت إلى المراهنة أكثر على النفط، على حساب قطاعات اقتصادية أخرى. ونتج عن ذلك اقتصاد غير متنوع بما فيه الكفاية.
وأدت تقلبات أسعار النفط إلى تراجع حاد للناتج المحلي الإجمالي وعائدات البلاد بشكل حاد، هذه التبعية للنفط تشكل مشكلة بالنسبة للاقتصاد، فضلاً عن أن إدارة الاقتصاد سيئة للغاية لدرجة عدم صيانة المنشآت النفطية ومصافي البلاد.
(سيجعل اعتماد فنزويلا على النفط منها دولة معدمة.. وبعد عشرين عاماً من الآن سنرى، سيجلب لنا النفط الخراب، إنه براز الشيطان)_ (خوان ألفونسو، وزير النفط الفنزويلي الأسبق، في تصريح له في السبعينيات أثناء حقبة ازدهار النفط الفنزويلي).
ويبقى الأمل أن تستفيد فنزويلا من تجارب الدول مع التضخم الهائل، ويوجد في التاريخ العديد من تلك التجارب القاسية لدول ذات اقتصادات كبرى حالياً، قامت بتخطيه وبناء اقتصاد قوي ومتين يعيد لها تألقها وغناها ومواكبتها لمقتضيات الرفاه والتطور والازدهار.
ريم الحسين