هل يقرأ أصحاب النزوع القومي ضرورة الاندماج الوطني في زمن الأزمات؟
محمد علي شعبان:
كل نزوع عرقي أو قومي، أو ديني أو طائفي، أو مذهبي، أو إثني، هو فعل سلبي ضمن الإطار العام، في دولة متعددة القوميات، يستدعي ردة فعل أكثر سلبية، سواء كان مصدرها من أكثرية أو أقلية، ذلك أن المجتمعات الإنسانية والديمقراطية تفقد سماتها الإيجابية ما لم تحتضن بين صفوفها جميع التنوعات الموجودة داخل الدولة، وتتشكل من خلالهم دولة المواطنة، بغض النظر عن كلّ انتماء آخر، وتقيم العدل والمساواة بينهم.
إن الشرائح الطامعة في السلطة والثروة، لها وحدها، تعمل على تعزيز التفرقة والتمييز بين البشر على أسس غير إنسانية، بغية تحقيق مكاسبها الخاصة.
لقد تعلمنا أن الأحزاب السياسية، التي تتشكل على أسس طبقية تندمج وتتماهى فيها الأطر الضيقة، كالأحزاب القومية، والشيوعية، فهي تهتم في المقام الأول بتطبيق العدالة والمساواة، وتتجاوز في مسيرتها فكرة النزوع باتجاه السيطرة على السلطة واحتكارها.
إلا أن الوقائع أثبتت عكس ذلك تماماً.
لقد حمل بعض أعضائها انتماءاتهم القبلية والعشائرية، وأصبحت هذه الانتماءات أحد مكونات بعض الأحزاب، فشكلت عائقا أمام برامج الأحزاب الطبقية، التي تميزت بخطاب جميل وبراق يدعو لتطبيق العدالة الاجتماعية، وللمساواة بين البشر بغض النظر عن أي انتماء آخر، متناقضة مع بنيتها التي تشكلت بمكونات قبلية وطائفية.
وقد ساهمت بتشكيل طبقة اجتماعية متنوعة من جميع الطوائف والمذاهب، تقاسمت فيما بينها السلطة والثروة، بتراتبية خاصة، تنحدر من أصول عائلية ومذهبية، كانت تمارس سلطتها في المجتمعات التي انحدرت منها.
لذلك بقيت الشعوب الفقيرة تدفع ثمن الصراع على السلطة، بين الأطراف المتصارعة، دون تحقيق أية مكاسب.
لقد خضعت المنطقة العربية لأنماط متعددة من الحكم، الذي يعود في بنيته وطبيعته إلى عهد الخلافة، التي لا تنتهي سوى بالموت.
لكن بعد ثورة الاتصالات، والتطور التقني المعلوماتي أصبح من الضروري إعادة النظر بمنظومات الحكم التي سادت على مدى فترات طويلة من الزمن، وخاصة بعد مشاهدة العديد من التجارب، المتناقضة التي حصلت في بعض البلدان العربية، واوربا الشرقية.
لن أكون مخطئاً لو قلت:
إن الوطن السوري من أغنى بلدان العالم بالتنوع القومي والديني والمذهبي والطائفي، ومن أكثر البلدان تعايشاً،
لقد كان منبع الحضارات فعلاً. وكان حضناً دافئاً لجميع القوميات، ولم تحصل أية شجارات داخلية لأسباب قومية أو طائفة، إلا إذا جاءت من خارج الحدود، لخدمة أعداء الدولة والوطن السوري بتعدديته.
لقد بدا واضحاً أن الإدارة الأمريكية ومن يدور في فلكها من البلدان الأخرى أكثر حرصاً على تعزيز المسميات المذهبية والطائفية والدينية وحتى المناطقية، بغية توظيفها، واستثمارها بإثارة الفتن والتناقضات داخل المجتمع الواحد.
ومن يتابع الأحداث خلال قرن من الزمن يكتشف أن الإدارة الأمريكية ليس لها حليف، سوى الكيان الصهيوني.
لقد خذلت معظم حلفائها وأصدقائها، واستغنت عنهم وعاملتهم كأدوات، تتلفها عندما تنتفي الحاجة إليها.
لذلك يجب التنبه إلى أسباب العلاقة القوية بين الكيان الصهيوني والإدارة الأمريكية، التي لا يمكن أن تتكرر مع طرف آخر. لهذا السبب، وأسباب أخرى. تؤكد التجارب أهمية عدم الوثوق بالإدارات الأمريكية، ما دامت تكيل بمكيالين في علاقاتها مع حلفائها وأصدقائها.
فهل يتنبه شركاؤنا في الوطن إلى خطورة العلاقة معها والوثوق بها؟!
بات من المؤكد أن الإدارة وغالبية الشعب الأمريكي يمارسون لغة البلطجة والتسلط على مقدرات الشعوب الأخرى، كالأموال التي أخذها الرئيس السابق ترامب من السعودية، ومصادرة الودائع الموجودة في البنوك الغربية لشخصيات عربية دون اي اعتبار لحق الشعوب العربية فيها.
إن خطاب الإدارة الأمريكية الملتبس، عن الديمقراطية، وحقوق الإنسان، هو وسيلة للبلطجة والتسلط على مقدرات الشعوب.
بيد أن الحصار الأمريكي على الشعب السوري، واليمني، والشعب اللبناني، هو خير دليل على كذب ونفاق غالبية الشعوب في الدول الرأسمالية وحكوماتها، ما دمنا لم نسمع احتجاجاً واحداً من قبل مؤسسات المجتمع المدني يدين هذا الحصار الجائر بحق غالبية الشعوب، التي ترفض الانصياع للرغبات الأمريكية.
من هنا أوجّه الدعوة لشركائنا في الوطن، من أية قومية كانوا، وأقول:
إن اندماج القوميات والطوائف والإثنيات والمذاهب، في الدولة، هو الخيار الصحيح، والنضال من أجل حقوق متساوية للجميع هو النضال الحقيقي، وليس نضالات مطلبية ضيقة تؤسس لتناقضات وخلافات، تستخدمها القوى الرأسمالية الطامعة في خيرات بلداننا.
إن أغلب مشاريع التقسيم التي عملت الدول الاستعمارية من أجل تنفيذها في سورية لم تنجح في الماضي.
لذلك يجب أن يعمل كل غيور على الوطن من أجل إفشال مشاريع كهذه وخاصة التي جاءت بمسميات ملتبسة، كديمقراطية المكونات، التي زرعت قاعدة بيانات التقسيم في العراق، أو الإدارة الذاتية التي يروّج لها في شرق سورية.
رغم قوة الدول الغربية، واستقلالها والتعدد العرقي والديني والقومي فيها، فقد سارعوا لبناء الاتحاد الأوربي، اندمجت فيه الأعراق والقوميات والطوائف.
لماذا لا يقرأ العرب والكرد، وباقي القوميات الرسالة، ويتجهوا كما اتجه الأوربيون، عوضاً عن العمل على مصالح فئوية خاصة، قد تؤدي لحروب ومجازر لا تحمد عقباها.
إن العمل على تشكيل اتحاد مشرقي يضم عدة دول تجمعهم مصالح مشتركة، وتحديات مشتركة، تندمج فيه القوميات والطوائف، والمذاهب، تلتغي فيه الانقسامات، والصراعات والتبعية، وتصنع حاضراً خالياً من الحروب، يؤسس لمستقبل أكثر عدلاً وإنسانية، لجميع شعوب المنطقة.