من يحمي الفقراء من مخالب الليبرالية الجديدة؟

بولس سركو:

قرأت أواسط سبعينيات القرن الماضي كتاباً عن الصين الشعبية لم أعد أذكر اسمه ولا اسم مؤلفه، ولكنني أتذكر أنه لصحفي غربي ذهب إلى الصين لمعاينة حالة الفقر التي كان الإعلام الغربي يطبل ويزمر لها ليل نهار، وأتذكر أكثر متلازمة (الفقر والغنى) التي تحدث عنها المؤلف في مقدمته ردّاً على ذلك التطبيل، مؤكداً أن الفقر يوجد حيث يوجد الغنى ولكن في مجتمع غير طبقي لا غنى فيه كالمجتمع الصيني لا يمكننا الحديث عن فقر.

متلازمة الفقر والغنى التي طرحها المؤلف بسلاسة أدبية رائعة كانت أسهل عليّ للفهم وأنا المراهق حينذاك، من قوانين المادية الجدلية والتاريخية التي كانت تشغل أحاديث الأصدقاء الأكبر عمراً، فقد فتحت أمامي الطريق لفهم تلك القوانين والابحار في علاقاتها الداخلية المتبادلة فيما بعد.

أتذكر تلك المتلازمة ونحن السوريون المحاصرون نعاني وضعاً معيشياً كارثياً غير مسبوق هو الأشد ظلماً من أي وضع في أي مكان من العالم الذي وصل عدد فقرائه إلى أكثر من مليار يعيشون على اقل من دولار واحد في اليوم حسب مصادر الأمم المتحدة، التي تحذر من أن تداعيات جائحة كورونا قد تدفع 395 مليوناً إضافيين إلى الفقر المدقع، لكن من ينظر إلى كورونا والحصار كسببين أساسيين لهذه الكارثة فهو لا يرى سوى الحركة الظاهرية للكارثة، بينما المطلوب علمياً هو سبر أغوارها، ما يكفل الوصول إلى الحقيقة، فالقاسم المشترك بين كل أسباب الفقر العميقة هو شريعة الغاب التي نجمت عن السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية على دول العالم، والتي جعلت هذا العالم يزداد توحشاً بوتيرة متصاعدة منذ ثلاثة عقود، عبر ذراعيها الماليين(صندوق النقد الدولي والبنك الدولي).

لا بد من التذكير هنا أن خيال فوكوياما كان قد وعد بأن زمننا سيكون الفردوس الأرضي المنتظر في غياب الاتحاد السوفييتي عن المشهد الدولي، وإذ بالعالم يغدو جحيماً مجسداً، والنخب من قادة قطاع الأعمال والتجارة والشخصيات السياسية والأكاديمية الذين يجتمعون دورياً في منتجع دافوس للتزلج على الجليد في جبال الألب بسويسرا تحت شعار تحسين وضع العالم، كأنهم في رحلة استجمام على المرتفعات الشاهقة في الوقت نفسه الذي يحصد فيه الموت من الجوع – وهو خطر يفوق خطر جائحة كورونا – مئات الآلاف من البشر حول العالم المنخفض، فعام 2011 مات 260 ألف شخص من الجوع في القرن الإفريقي، نصفهم من الأطفال، وتهدد المجاعة نصف مليون طفل يمني اليوم كما يهدد نقص الغذاء 12.4 مليوناً من السوريين وملايين العراقيين وغيرهم.

نخب منتجع دافوس تؤدي دوراً استعراضياً ودعائياً هزيلاً، مكشوفاً للجميع، فلا أحد يصدق أن منتجي الفقر الليبراليين الجدد هؤلاء أولاد وأحفاد الذين ألصقوا تهمة الفقر بالصين في ذلك الزمن، وعملائهم في كل مكان وما يجنونه لخزائنهم الخاصة من هذا الواقع الطبقي العالمي الفظيع يمكن أن يفكروا بتحسين وضع العالم أو أن يمتلكوا تصورات وآليات لذلك، فالفكر الليبرالي الجديد الذي يحرك سلوكهم، يعفيهم من مسؤوليتهم عن الفقر والفقراء ويبرر لهم استغلالهم بصفته مظهراً من مظاهر الحرية الفردية والطبيعة حسب ظنهم، ويجعلهم ينظرون إلى الفقراء كضحايا لعجز الفقراء بذاتهم عن الصعود إلى مرتبة الأغنياء، وقد يقرون بعدم وجود العدالة، ولكنهم لا يسلمون بأن غيابها هو بسبب سياساتهم، وأكثر من ذلك فهم يشيعون مقولات حول خيالية مفهوم العدالة واستحالة تحقيقها في الواقع، لذلك فالأمل المعقود على رحلتهم الاستجمامية في جبال الألب هو حلم إبليس بالجنة كما يقال، فما العمل؟ من يحمي الفقراء الذين جردتهم أيضاً الدعاية الغربية من وعيهم الطبقي الذي يقودهم إلى إدراك مصالحهم الحقيقية؟ من يحميهم من مخالب الليبرالية الجديدة!؟

لقد نجحت هذه الدعاية الليبرالية حتى في جعل أعداد متزايدة من ضحاياها تهزأ بالتقسيم الطبقي للمجتمع وتنفي وجوده أو تعتبره من الماضي أو من المشيئة الالهية أو كجزء من حقيقة الطبيعة الاجتماعية، وهي مظاهر متنوعة لوسائل تفكير طبقة بروليتارية (بالمعنى الحديث الواسع أي كل ضحايا العولمة المتوحشة وليس العمال وحدهم)غير مسلحة بالوعي الطبقي، متاثرة في جزء كبير منها بالبهرجة النفسية التي خلقتها موضة تجدد فكري سطحية لا قيمة فعلية ولا وجود فعلياً لها، كرّسها مفكرون مرتزقة أو ساذجون، مفعمون بعقد نقص متراكمة، ووسائل إعلام مجندة خصيصاً لقلب المفاهيم وتجميل صورة عالم غير متوازن منهار يسوده الظلم والقهر دمرت العولمة الأمريكية اقتصادياته وثقافته، ولم تزل بعد مرور ثلاثين عاماً على تفكك المنظومة الاشتراكية تنشر الأكاذيب حول النظرية الشيوعية وتوحي باستحالة تطبيقها بزخم متصاعد مما يطرح السؤال البسيط:

إذا كانت النظرية الشيوعية قد سقطت مع سقوط نظام الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو كما تزعم البروباغندا الغربية ويصدقها كثيرون، فما هو مبرر استمرار حربها على هذه النظرية بكل هذا الثقل إلى يومنا!؟

السبب هو أن العدالة الاجتماعية لن تتحقق بغير النظرية الشيوعية، وتحقيقها يعني فقدان ناهبي قوت الفقراء لامتيازاتهم ووسائل لصوصيتهم، هذا جانب، أما الجانب الآخر فعلى من يقول بسقوط النظرية الشيوعية أن يقدم ما يؤكد حديثه أو يطرح بديلاً، فنحن (التقدميون المتهمون بالرجعية) على حد علمنا لم تظهر إلى الوجود حتى الآن نظرية تنهي الطبقية الاجتماعية التي تعشش في ثناياها متلازمة الغنى والفقر سوى النظرية الشيوعية الضامنة والمنقذة لحياة الفقراء وكرامتهم وحريتهم.

 

العدد 1104 - 24/4/2024