من الكأس ذاته سنشرب

إيناس ونوس:

نتعامل في حياتنا اليومية مع أشخاصٍ كُثُر، وباللاشعور يتشكّل لدينا إحساسٌ داخلي يشدّنا تجاه بعضهم دون أن ندري عنهم شيئاً للبحث عن المزيد من طرق التواصل، بينما يوقفنا عن التواصل مع البعض الآخر، في حين أنه يجعلنا نتعامل بحيادية ولا مبالاة تجاه آخرين، هذا الإحساس الأول هو ما يبني عليه غالبية الناس مواقفهم لبناء علاقاتهم المتنوعة والمختلفة، وتأتي الأيام والمواقف والأمور المشتركة في تلك العلاقات فتكشف معدن كلٍّ من طرفي العلاقة، وتحكم نهايتها سلباً أم إيجاباً.

فهل من الممكن أن يكون الإحساس الأول مخطئاً؟؟

يأتي الإحساس الأول فطرياً، عفوياً غير قائمٍ على أي موقفٍ أو تجربة، ولذا فغالباً ما يكون صادقاً، ومن ثم يأتي دور النتائج والأفعال والسلوكيات فتؤكّد هذا الشعور أو تلغيه، فبعض الأشخاص يتعاملون مع الناس من خلال تعاملهم مع ذواتهم، ويبنون علاقاتهم على قاعدة (ما أرتضيه لنفسي أرتضيه للآخر)، وغالباً ما يكون هؤلاء الأشخاص عفويين صادقين مسؤولين عن كل تصرف أو حدث يعيشونه، بينما يتعامل البعض الآخر بشيء من التودد والمحاباة دون إظهار أي جانب من جوانب شخصيتهم الحقيقية في بداية العلاقة والتي حكماً ستظهر تباعاً مع مرور الأيام وتتالي المواقف، فتتبلور شخصيتهم أمام الطرف الآخر ما يجعله ينصدم بها غير مُصدّقٍ أن هذه الشخصية هي ذاتها من تعامل معها وتعاملت معه ببداية الأمر، وهنا تبدأ ثلّة من التراكمات والمشاكل في تلك العلاقة تطفو على السطح وربما تصل في نهاية المطاف إلى قطع أي شكل من أشكال التواصل، فأين تكمن المشكلة؟؟

باعتقادي أن المشكلة تكمن هنا في قدرة الإنسان على المراوغة وامتلاك كم هائل من النفاق والزيف، مع إعمال العقل على إجبار الذات على التصرّف بسلوكيات معينة ليست من سماتهم الأساسية لهدفٍ ما، وبما أن الإنسان لا بدّ له أن يكون على طبيعته في النهاية، ولأنه مهما امتلك من القدرة على المراوغة فإن مرور الوقت والتجارب والمواقف كلها أمور كفيلة بإظهار الجوانب الخفية في الشخصية، فتبدأ بالظهور على حقيقتها تباعاً وتبدأ معها الصدامات، ويتشكّل لدى الطرف الأول سيل من التساؤلات: هل هذا هو الشخص الذي عرفته سابقاً؟ ما الذي حصل حتى أمسى على هذا النحو؟ ولماذا؟ ومنذ متى؟ والكثير الكثير من تلك التساؤلات التي تقضُّ مضجعه.. فتجعله يبدأ هو الآخر بالتغيّر كنوع من ردِّ الفعل الطبيعي.

وكم هي كثيرة تلك العلاقات والمواقف في حياتنا التي تعرّضنا ونتعرّض لها على هذا الصعيد، وجعلتنا ندفع الثمن باهظاً من أرواحنا وأحلامنا ورغبتنا بالحياة ككل، وهي ذاتها من دفعت بالعديد منّا للوصول إلى حدَّ الاكتئاب والنفور الكلي من التعامل مع الآخرين، لاسيما وإن تكرّرت النماذج ذاتها عدة مرات، ما يدفع لمحاولة التغيير والتصريح بأنه لن يبقى على طبيعته بعد اليوم، وأنه لا بدّ أن يتغيّر، وهنا نجد أنفسنا أمام أحد الاحتمالات التالية:

الأول أن يتغير الشخص بالفعل، ويصبح كغيره مراوغاً منافقاً، غير أن هذا التغيير سيكون كارثياً وتحديداً على المستوى الشخصي للشخص ذاته لأنه يجعله يقوم بثورة كلية على قيمه ومبادئه وأخلاقياته وسلوكياته ويصبح منطلقه الأول والأخير هو الانتقام ممّن سبب له كل تلك الأذيات السابقة، غير أن انتقامه هذا يُطبّق على من لا علاقة لهم بكل ما حصل سابقاً، فيتحوّل من ضحية إلى جلاد.

والثاني، أن يبقى الإنسان متمسكاً بكل ما يحمله من سمات خاصة بشخصيته تحديداً، لكنه مع تكرار المواقف ومرور العديد من المنافقين بحياته يلجأ للانعزال والاكتفاء بذاته بعيداً عن العالم الخارجي، رافضاً له لأنه غير قادر على مجاراته من جهة، وغير قادر على تغيير أي شيء بذاته وبقناعاته من جهة أخرى.

أما الاحتمال الثالث، فهو الإنسان الاجتماعي بطبيعته، والذي تعلّم دروساً قاسية من كل ما مرَّ به، فيبقى محافظاً على ذاته بأقلِّ الخسائر متشبّثاً برؤاه وقناعاته، مع إصراره على التواصل مع الآخرين دون السماح لهم بأن يؤذوه أو يسببوا له أيّما ضرر نفسي جديد، محوّلاً علاقاته إلى علاقاتٍ سطحية تحكمها حاجته البشرية للتواصل مع المحيط فقط، مكتفياً بالقليل من الأشخاص الذين أثبتت له الحياة جدارتهم بالبقاء معه كأشخاص فاعلين ومؤثرين في حياته، إن احتاجهم يجدهم وإن احتاجوه يجدونه.

إن الحياة الاجتماعية بقدر ما تحمل من البساطة والسهولة في آلياتها، فإن فيها علاقات معقدة نتيجة اختلاف طبائع البشر، وآليات تعامل كل شخص مع الحياة ومع الآخرين، والأمثال الشعبية لم تأتِ عبثاً، وأكثر ما ينطبق منها هنا (الدنيا دوارة، وكل واحد رح يشرب من نفس الكاس اللي شرّبها لغيرو)! لذا وبالرغم من انتشار الكذب والنفاق والمراوغة هذه الأيام بشكلٍ مثيرٍ للقلق، يبقى الصدق والعفوية من أهم أساسيات أيّة علاقة ودونهما لا يمكن لهذه العلاقة أن تستمر، وسنبقى كبشرٍ مهما طحنتنا المواقف والأيام راغبين في العيش واكتساب المزيد، مع ضرورة اكتساب مهارات جديدة للعيش ببعض السلام الداخلي الذي سيعود حتماً بالنفع على طرفي العلاقة أياً كان شكلها.

العدد 1104 - 24/4/2024