ضمير القوانين ودعاة العصر

سليمان أمين:

عندما غُيّبت المحبة والقيم الإنسانية والروحية والموروث الثقافي الإنساني لدى بعض السوريين، بتنا ندور في حلقة مفرغة من الجهل الذي لبس عقول كثيرين، فسادت النميمة واللقلقة وقلة الأخلاق، وسيطرت على مفاصل في مجتمع أعملت فيه الفوضى معاول الهدم بسبب غياب تطبيق القوانين، فمن المعلوم أن أي مجتمع يغيب فيه تطبيق القانون على الجميع فإنه يتحول إلى حالة الفوضى القاتلة التي تقوده إلى الهاوية لا إلى حافتها.

أن تحمل شهادة علمية لا يعني أنك معفى من أن تكون جاهلاً، فالجهل بفقدان المعرفة وركائز الإنسانية وفقدان لغة المنطق ومعاييره في تقييم ما يدور حولنا لتحكيم الصح من الخطأ، الجهل هو أن يساق كثيرون وراء إشاعة ما لتصفية حسابات شخصية ووهمية بطرق مقرفة ومقززة من اللاأخلاق وقلة الضمير، ولعل ما حدث ويحدث على وسائل التواصل الاجتماعي كافٍ لنا للحكم بمدى البشاعة التي نعيشها اليوم، وهذا مجرد صورة مصغرة لما يحدث في واقعنا الاجتماعي بدءاً من الأسرة إلى الحي والقرية والمدينة،  والسبب في كل ذلك يعود إلى هشاشة المنظومة الاجتماعية وابتعادها عن القانون، وكذلك هشاشة المنظومة التربوية، وأتى الفقر في سنوات الحرب فشكّل ضربة قاضية، ولم يكن الفقر وحده المشارك في هدم المجتمع بل هناك أسباب كثيرة ساهمت بتوسع رقعة الانحطاط الاجتماعي، ولعل وسائل التواصل الاجتماعي التي لا تمارس عليها الرقابة الفعلية كانت الكارثة الأكبر.

كتَبَةُ التقارير وصانعو المحتوى  

التنشئة الخاطئة في المنظومة الاجتماعية بدأت بـ(تصنيع) كتَبَة التقارير في فترات سياسية معينة، تطورت فيما بعد إلى مخبرين يتم توزيعهم في الأحياء والأسواق وغيرها من الأماكن لاصطياد المثقفين والناس وأصحاب الرأي بطرق ملتوية، وتطورت هذه (الصناعة) وأصبحت منهجية يتبعها بعض الناس اليوم لتصفية حساباتهم الشخصية، وفي كثير من الأحيان بدافع الانتقام من خلال التقرب من المسؤول الأمني وغيرها من الأمور المرَضية الأخرى التي تسيطر على المجتمع.

ونحن هنا لسنا بصدد القول إن مهنة كتابة التقارير وإعداد المخبرين خاطئة أو صحيحة، ولكن التطبيق الخاطئ لها وعدم وجود قوانين عقاب وجزاء لكتاب التقارير والمخبرين جعلها تكون الأسوأ في المجتمع، فعلى سبيل المثال كم عدد الأشخاص الذين ذهبوا ضحية كتابة تقرير من دون أن يعلموا لماذا؟ لقد بات الأخ في أيامنا هذه يكتب بأخيه تقريراً من أجل مصلحته الشخصية وكذلك الجار بجاره، وهكذا دواليك! وكم خسر المجتمع من مثقفين ومن ناس جيدين بسبب عدم وجود قانون لتنظيم كتاب التقارير والتحقيق بمدى صحة ما كتبوه ووصفوه بطرق استقصائية ومعاقبتهم في حال كان القصد الأذية أو ما يمكن أن نسميه تضليل المؤسسة الأمنية وإبلاغها بمعلومات خاطئة من أجل تصفية حسابات شخصية ووهمية، وما ذكرناه عن هذه المهنة وتطورها مثال بسيط لما نراه اليوم على وسائل التواصل الاجتماعي التي بات يسيطر عليها (الإنفلونسرز) من كتاب التقارير وصانعي الإشاعات وغيرهم من مدّعي الإعلام والصحافة …إلخ.

 انحدار الصحافة

لا يمكن أن نسمّي صانعي المحتوى (الإنفلونسرز)، الذين لديهم من المتابعين أعداد تفوق أعداد توزيع أي صحيفة كبرى على وسائل التواصل الاجتماعي: إعلاميين أو صحفيين، فللصحافة منابرها الخاصة وميثاقها الخاص التي تعمل به كل مؤسسة إعلامية سواء عامة أو خاصة تحت قانون إعلام يحكم عملها ويحكم عمل الصحفي، أما بالنسبة لوسائل التواصل الاجتماعي فهي مجرد شبكات اجتماعية ترفيهية لا يحكمها قانون عام أبداً، ولقد جرى استثمارها في بلادنا العربية بطرق خاطئة من دون وجود أطر معينة وقوانين تحكم روادها بالشكل الأمثل والصحيح. لذلك نرى اليوم هذا الكم الكبير من الإساءات والإشاعات وغير ذلك من الكلام المسيء أخلاقياً وغيره من دعاة الدين والعلم الذين عملوا لسنوات على تجهيل المجتمع، وقد وُضع قانون محاسبة في سورية خلال السنوات الماضية ولم نلحظ مدى فاعليته حتى اليوم، فدائماً يكون الضحية الشخص الخطأ في عداد العقاب والمحاسبة. أما صانعو المحتوى والإشاعات فلم نلحظ أيّ تقييد لأخبارهم ولا تدقيق ما جاء فيها ومحاسبتهم، فقد بات هناك كثيرون من مدّعي الصحافة والإعلام أو يمكن تسميتهم بالدعاة يديرون صفحات كبرى بنشرهم لمحتوى مسيء أو غير صحيح، فهل زيادة عدد المشاهدات والأكثر قراءة أهم من مصداقية المعلومة وتدقيقها؟ أضف إلى ذلك صفحات منح الشهادات والألقاب والتميز وغيرها من الأمور المضحكة التافهة التي تشعرك مدى كم الجهل الذي يعيشه المجتمع.

ويمكن أن نقول هنا: ماذا فعلت الصحافة لمواجهة حالة الانحطاط هذه، وسيادة تيار النميمة على المعلومة؟ وكما كان الداعية من قبل (مشّاء بنميم)، هكذا هم اليوم المؤثرون (الإنفلونسرز). وبدلاً من مواجهة الشعوذة المعلوماتية، التي تعصف بنا منذ سنوات، هل يمكن أن نصف الحالة اليوم بأن الصحافة (تشورعت) كحال الخطاب الديني والاقتصادي وغيره من الخطابات التي كانت جوهرية في فترة زمنية ليست بالبعيدة؟

لقد كانت مركزية الصحافة هي الصنعة، وتجهيز الخبر، ونقل المعلومة الأقرب إلى الدقة، بهدف تعليم المواطنين من أجل اختيارات أفضل، على الأقل في الأنظمة الديمقراطية. أما في أيامنا هذه، فنحن ننتقل من عالم الصحافة إلى عالم أقرب إلى النميمة منه إلى الصحافة، من خلال ما يعرف بوسائل التواصل الاجتماعي، فهل يمكن أن تتأقلم الصحافة ليكون المجتمع هو مركزيتها الجديدة، في مغامرة منها لاقتحام عالم النميمة، وتصحيح مساره من خلال الاحتكام إلى معايير الدقة في تداول الأخبار ونقل المعلومات؟

تكمن تحديات الصحافة اليوم في عصر وسائل التواصل الاجتماعي في مصداقية المعلومة، والتأكد من صحتها، وفلسفة الحقيقة بشكل عام، فقد بات الوضع اليوم سيئاً جداً من تغير في البيئة الصحافية، فبدلاً من ارتقاء مادة (السوشيال ميديا) إلى مستوى الصحافة، تنحدر الصحافة إلى مستوى عالم (السوشيال ميديا)؛ فعلى الصحافة أن تفرض معاييرها على (فيسبوك) وليس العكس.

أرى أن الحل اليوم يكمن في خلق إعلام مستقل غير خاضع لأي تيار سواء ديني أو حزبي أو أمني، والمطلوب هيئات مستقلة تشرف على إعلام يموّله المجتمع، يختارها ليس رجال الأمن، بل مختصون في الإعلام والصحافة يتصفون بالنزاهة والكفاءة وانفتاح الأفق والرؤية الإنسانية.

العدد 1102 - 03/4/2024