تبرئة ترامب.. معانٍ ودلالات!

د. صياح عزام:

مؤخراً، بُرِّئ الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في مجلس الشيوخ الأمريكي من تهمة (التحريض على التمرد والعصيان) التي كانت قد وُجّهت له، بسبب حادثة غزو مؤيّديه مبنى الكابيتول واقتحامه يوم السادس من شهر كانون الثاني الماضي، ما أدى إلى مقتل خمسة أشخاص، بينهم أحد أفراد الشرطة الأمريكية.

وهذه التبرئة إن دلت على شيء فإنما تدل على أن الديمقراطية التي تغنى بها الأمريكيون لفترة طويلة، ونصّبوا من أنفسهم مدافعين عنها في أنحاء العالم، ليست بخير، وأن الشعبوية والتطرف والإرهاب الأبيض مازالت حاضرة بقوة في السياسة وداخل المجتمع الأمريكي، وأن الولايات المتحدة، هذه الدولة العظمى، هي في أمسّ الحاجة إلى عملية (تعقيم) سياسية واجتماعية واسعة النطاق لإخراج البلاد من حالة استقطاب لا مثيل لها، إذ يعمل اليمين المتطرف والجماعات العنصرية على تكريس وتعزيز وجودهما وحضورهما على الساحة.

لقد كانت جهود النواب الديمقراطيين تتجه إلى تثبيت التهمة، وكان ذلك يحتاج إلى موافقة ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ البالغ عددهم مئة عضو، إلا أن ما حصل أن سبعة وخمسين عضواً فقط أيدوا توجيه التهمة والإدانة، مقابل ثلاثة وأربعين عارضوا ذلك، لأن سبعة أعضاء جمهوريين فقط انضموا إلى الديمقراطيين الذين بالغوا على ما يبدو في رهانهم على أن الجمهوريين سوف يتخلون عن الرئيس السابق ترامب.

هذه النتيجة لعملية التصويت أثارت غضب الديمقراطيين، ودفعت الرئيس المنتخب جو بايدن إلى إطلاق تحذير بأن الديمقراطية الأمريكية هشّة ويجب الدفاع عنها دائماً، وعلينا أن نكون يقظين حيال ذلك.

أما رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، فقد وصفت رفض الجمهوريين تحميل ترامب مسؤولية ما جرى يوم السادس من كانون الثاني يوم اقتحام الكابيتول بأنه (يوم من أحلك الأيام، وأكثر الأعمال خزياً في التاريخ الأمريكي).

إن هذه الصدمة التي تعرّض لها الديمقراطيون في مجلس الشيوخ، قابلها الرئيس السابق ترامب برد فعل عكسي، فقد قال في بيان أصدره: (إن حركتنا التاريخية والوطنية والجميلة لجعل الولايات المتحدة عظيمة مجدداً بدأت لتوها)، وهذا يعني أن ترامب لا يزال مصرّاً على أن يلعب دوراً مستقبلياً في الحياة السياسية الأمريكية، وهذا يعني أيضاً أن (الترامبية) لن تنتهي، بل على العكس ستجد لها مساحة واسعة من التأييد داخل المجتمع الأمريكي وفي صفوف الحزب الجمهوري الذي لم يتخلَّ عنه، ذلك أن الأوساط الشعبوية والعنصرية البيضاء التي منحته تأييدها في الانتخابات الرئاسية، وحرضت بل وساهمت في عملية اقتحام الكابيتول، أصبحت ترى فيه قائداً يمثل طموحاتها ورغباتها، وتعتبره الرئيس الذي يجسد على أرض الواقع خياراتها العنصرية المتطرفة.. وترامب كان واضحاً وصريحاً إلى حد كبير في مخاطبة مؤيديه ومريديه عندما قال: (في الأشهر المقبلة لدي الكثير لأتشاركه معكم، وأنا أتطلع إلى مواصلة رحلتنا الرائعة معاً لتحقيق العظَمة الأمريكية لشعبنا بأجمعه)!

صحيفة (فايننشال تايمز) البريطانية، ورغم وصفها التصويت في مجلس الشيوخ بأنه (تتويج لفترة مظلمة في التاريخ السياسي الأمريكي) أشارت إلى أن عملية التصويت ونتائجها أظهرت أن ترامب لايزال يملك القبضة القوية على الحزب الجمهوري، ويحتفظ بولاء النواب الجمهوريين وتأييدهم.. لكن رغم ذلك لا أحد يعرف الخطوة التالية لترامب بعد هذا التصويت، هل سيمسك بزمام الحزب الجمهوري مجدداً أو يحوله إلى حزب يتبنى أفكاره وآراءه المتطرفة، أم سيسعى إلى تشكيل حزب جديد يضم الجمهوريين المشابهين له ويمثل كل الذين خاطبهم وعاهدهم على مواصلة الرحلة معهم؟

لا شك في أن الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة وما تخللها من مواقف وأحداث، شكلت علامة فاصلة في تاريخ السياسة الأمريكية، وأحدثت شرخاً واسعاً في المجتمع الأمريكي يصعب علاجه.

العدد 1102 - 03/4/2024