القرية العولمية الظالمة

يونس صالح:

قضت البشرية آلاف السنوات لتحقيق قدر من المساواة بين البشر. ثار العبيد من أجل حريتهم، وثار الفلاحون ضد الإقطاع، وحدث الصدام الواسع بين الرجل الأبيض والسكان الأصليين في القارة الأمريكية عندما جاءت الهجرات الأولى، وانتصرت الشعوب في حروبها ضد الاستعمار الذي جاء ليسود، وظن الجميع، في أوائل القرن الحادي والعشرين، أن التمييز قد انتهى واختفى، وأن العنصرية باتت ذكرى تاريخية، وأنه حان الوقت لخوض معارك جديدة للمساواة بين الرجل والمرأة، وبين الناس ذوي الديانات المختلفة، وبين أهل الشمال وأهل الجنوب. إنه عالم من المساواة.. ولكن القرن الحادي والعشرين قد أطل علينا، وها هي ذي المؤتمرات التي تحمل عناوين ضد العنصرية وكراهية الأجانب تُعقد.. وها هي ذي أشكال جديدة من اللامساواة تفرض نفسها وتقلب التاريخ من جديد.

لم يتحدث التاريخ عن العدالة الاقتصادية إلا قليلاً، عندما تصورت الماركسية أن (لكل فرد بمقدار ما يحتاج، ومن كل فرد بقدر ما يستطيع)، ولكن التاريخ أيضاً لم يشهد هذا القدر الهائل من (اللامساواة)، التي باتت أكثر وضوحاً للعيان.

تذكر الصحافة الغربية أن تركز الثورة في العالم، مع انتشار الفقر في ربوعه قد بلغا أشدهما، فبانت شريحة الدول منخفضة الدخل التي تضم 40٪ من السكان تقريباً لا تحوز أكثر من 3٫4 بالمئة من الناتج القومي للعالم. بينما تحوز الدول الغنية التي لا يصل سكانها إلى 15 بالمئة من سكان العالم نحو 79 بالمئة من الناتج القومي العالمي.

إن هذا البون الشاسع يأتي بعد رحلة طويلة من تنمية التخلف وتنمية التقدم طوال أربعين أو خمسين عاماً مضت، وعلى الرغم من ازدياد الناتج العالمي خلال الخمسين عاماً الماضية أضعافاً كثيرة، لكن الفقر ازداد أيضاً، وهو ما أكدته تقارير الأمم المتحدة حين ذكرت أن العالم ينتقل من حالة (اللامساواة) إلى حالة (اللا إنسانية)، وأن هناك نحو 400 ملياردير تساوت ثرواتهم مع دخل 45٪ من سكان العالم، أي أكثر من ثلاثة مليارات إنسان. وهكذا استمر التطور سلبياً حتى بات 20٪ من سكان العالم، وهم سكان الشمال الصناعي، يحوزون 86٪ من الناتج المحلي الإجمالي طبقاً لتقرير التنمية البشرية عام 2011.

اللا مساواة، إذاً، في ظل تيار العولمة، تتكرس وتتسارع، وفي اتجاه عكسي لما نتحدث عنه من أن العالم سوف يصبح قرية صغيرة، وأن فرص العولمة سوف تأخذ بيد الضعفاء الذين ستفتح أمامهم الأبواب، والظاهرة ليست جديدة، فمع كل مرحلة جديدة تتقدم فيها الصناعة كان البون يتسع مع الدول غير الصناعية التي ظلت تحافظ على الأشكال القديمة والتقليدية لأنماط الإنتاج.

وبينما كانت الحركات الاستعمارية غزواً للأسواق وامتلاكاً لها عن طريق القوة العسكرية، فإن العولمة تأتي في الاتجاه نفسه لكن من خلال قوة الاقتصاد وتدفقات الأموال والسلع وانتشار المعرفة. أما نقطة البدء فهي تكنولوجيا أكثر تقدماً توفر إنتاجاً أكثر يبحث عن أسواق، ويحطم أمامه الحدود الاقتصادية للدول، بل وبعضاً من الحدود السياسية أيضاً، بعد أن أصبح مفهوم السيادة قابلاً للتغيير، وبعد أن باتت بعض الشؤون المحلية شأناً دولياً يستدعي تدخل الآخرين.

كان الشعار المرفوع هو المساواة بين البشر، وهو ما تقول به (مواثيق حقوق الإنسان) وتقضي به (مبادئ الديمقراطية)، وكانت الحرية الاقتصادية هي الأداة المنتقاة للتفاعل في الأسواق ليقتسم الجميع كعكة الرخاء.

لكن الدعوة والممارسة التي تهيمن عليها منظمات دولية مختلفة جاءتا بالنقيض، فالديمقراطية في الداخل يقابلها لا ديمقراطية في العلاقات الدولية، وحقوق الإنسان التي تتخذ ذريعة للعقوبات الدولية يجري إهدارها عالمياً بتكريس اللا مساواة وتوسيع الهوة بين الشمال والجنوب، بين الأكثر ثراء والأكثر فقراً.

لقد جاءت العولمة لتفتح الحدود أمام الأموال والسلع والخدمات، ولتغلقها أمام انتقال البشر، وأتت الدعوة لدورٍ جديد للدولة: تكريس نفوذ الخارج وإضعاف نفوذ الداخل، ولتجعل تيارات الخارج المالية والسلعية والثقافية بلا حاجز وطني.

العدد 1102 - 03/4/2024