ما بعد المقالية
د. أحمد ديركي:
تعتبر الأزمات الدورية التي تصيب نمط الإنتاج الرأسمالي واحدة من عناصره البنيوية. وقد تحدث عنها العديد من منظري هذا النمط، وأحدثهم عهداً لحل الأزمة الدورية (كينز) وعُرفت حلوله، أو منهجه المتبع لحل الأزمة الدورية بـ(الكينزية).
أخرجت (الكينزية) النمط من أزمته في حينها (الكساد الكبير (the great depression).حالياً وقع النمط في أزمة أخرى، ومن الطبيعي أن تكون أكثر تعقيداً. يعود سبب كثرة التعقيد في كل أزمة عن سابقتها إلى تطور النمط، وبهذا تكون كل أزمة يصاب بها أكثر تعقيداً عن سابقتها. من هنا يمكن لحظ فشل (الكينزية) في حل الأزمة الدورية الراهنة. هذا ما يمكن لحظه من خلال طرح بعض منظري النمط حلولاً تعتمد في جزء كبير منها على (الكينزية)، وأطلق على حلولهم تسمية (نيو – كينزية). فشلت هذه المدرسة، أيضاً، في إخراج النمط من أزمته الدورية الراهنة.
وها نحن اليوم نلحظ بدايات تشكل مدرسة جديدة لحل الأزمة الدورية الراهنة. مدرسة تقوم على قاعدة (عدم المساواة)، ومن أبرز منظريها جوزف ستيغلتز وتوماس بيكتي. فهل ستنجح هذه المدرسة؟
مقابل منظري النمط ومدارسهم، هناك مدرسة نقيضة تعرف بالمدرسة الماركسية. اللافت للنظر أن منظريها، وحالياً، إما قلة أو مطموسون، على الرغم من أن أبرز الصحف المؤيدة للنمط، في بدايات الأزمة الراهنة، ضجت بالمقالات حول كارل ماركس وقراءته لنمط الإنتاج الرأسمالي. كما صرح العديد من منظري النمط أنهم عادوا إلى قراءة ما كتبه ماركس! ولكن لم نسمع بأي منظر، أو منظرين ماركسيين، طرحوا وجهات نظر لكيفية التعامل مع الأزمة الراهنة! وإن وجدت هكذا دراسات الأمر فاللافت للنظر فيها فيما قيل من قبلهم. معظمهم، إن لم يكن كلهم، أجمع على (نهاية الرأسمالية)! متناسين أن لنهاية أي نمط إنتاجي لا بد من توفر الشروط الذاتية والموضوعية لنهايته، ومسيرة ديناميته و…الخ وما إلى هناك من أمور أخرى يجب أن تبحث بعمق أكبر، وعلى البحث أن يكون معتمداً على أسس علمية ومنهجية واضحة، لا مجرد أقوال وأحكام مبرمة تطلق تعتمد على تخيل موهوم محبب!
هذا ما أوقع معظمهم في فخ نمط الإنتاج الرأسمالي، لأن أحد بناه الأساسية ومن مهماته إنتاج وعي زائف. فانزلق كثير من منظري الماركسية ليكونوا منظرين رأسماليين متوهمين بأنهم ماركسيون.
ضمن هذه المدرسة، أيضاً، هناك من ظن أنه تجاوز فكر ماركس والماركسية برمتها وأصبح لهم مدرسة تعرف بـ (ما بعد الماركسية_(post Marxism وانزلقوا مثل أسلافهم، فكراً وممارسة، وانضموا إلى منظري الرأسمالية متوهمين بأنهم نقيض المدرسة الرأسمالية، وبتحديد أكثر، نقيض مدرسة ما بعد الرأسمالية (post capitalism).
حالياً ما أكثر استخدام كلمة ما بعد (post). ويبدو أن الجميع مغرم بها! قد يكون هذا (الغرام) ناجماً عن جهل التعامل مع القراءة الصحيحة لطبيعة الصراع الطبقي القائم وديناميته ضمن دينامية نمط الإنتاج الرأسمالي وفيه وعلى تغييره، وبناء نقيضه.
جهل هذه الدينامية ولّد ما بعد(post) عند ظهور أي تعقيد في مقاربة أي أزمة أو أمر، فكانت كلمة (post) هي الحل المتوهم وكثرت الاستخدامات ما بعد الحداثة (post modernism) (مجتمعات ما بعد صناعية (post industrial societies) إن أردنا ركوب موجة (post) يمكن أن نقول إن هذا المقال ينتمي إلى ما بعد المقالية .(post articulization)
قد يكون من حق منظري الرأسمالي الذهاب إلى (post)، ولكن هل للماركسيين حق الانزلاق الفكري والمنهجي والعملي بهذا الشكل!
لنعُد إلى قراءة الإيديولوجيا الألمانية (the German ideology) ومن ثم البيان الشيوعي وما تلاهما من مؤلفات ماركسية، قبل الحكم على نمط الإنتاج الرأسمالي!