عجلة التغيير وعصا المعيقات

بقلم: إبراهيم الحامد (عضو رئاسة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوري الموحد):

لا شك أن تطور المجتمع البشري مستمر، والانتقال من مرحلة اجتماعية إلى أخرى أكثر تقدماً وعدلا حتمي ونتيجة لتطور وسائل الإنتاج وقواه. وفي العصر الراهن المتميز بالتطور التكنولوجي والصناعي الهائل والمتسارع، ووصول النظام الرأسمالي العالمي إلى أعلى مراحل تطوره، قد حتّم عليه عملية التغيير الجذري في بنية نظامه، ليواكب فكر الإنسان المعاصر وثقافته واحتياجاته ويلبي طموحاته التي تشكلت في ضوء تجديد وسائل الإنتاج تلك، وهذا ما يفرض عليه أن يطور علاقات الإنتاج لتنسجم مع تطورات وسائل الإنتاج. هذا هو التناقض الأساسي والحاد الذي يعيشه النظام الرأسمالي ووضعه أمام خيارين وهما:

– الخيار الأول: إما أن يقوم بعملية التغيير في بنية نظامه السياسي، وذلك من شأنه التقليص والتخفيف من عمق التباين والفرز الطبقي الحاد للمجتمع، وتدفعه باتجاه تحقيق العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة، وهذا ما لا يرغب فيه، لأن ذلك يتناقض مع إيديولوجيته.

-الخيار الثاني: أو يلجأ لعملية كبح عملية التغيير وعرقلتها إيماناً منه بأن الرأسمالية هي نهاية التاريخ ولا بد من عولمتها. فاستبعاده الخيار الأول واللجوء للثاني، دفع به لإجراء التغيير وفق منظوره الإيديولوجي بعكس ضرورات التغيير، وهذا ما أدخله في أزمة مركزية وبنيوية عميقة، ومن أجل حل أزمته وإطالة عمره والحفاظ على كيانه ومركزيته طرح مشروعه (الشرق الأوسط الجديد القائم على نشر الفوضى الخلاقة)، وإثارة الحروب في دولها، مستهدفاً في البدء الدول التي تبنت النظام الاقتصادي المخطط والموجه القائم على القطاع العام والتعاوني ورأسمالية الدولة، بهدف تدميرها ونهب مقدراتها، ومن ثم إعادة ترتيبها بقيادة مرتكزاتها (إسرائيل وتركيا). ولكن تشكل أقطاب رأسمالية وظهورها مع دول إقليمية ثيوقراطية لتقاسمه النفوذ، قد أفشل مخططاته تلك، وخلق انقساماً سياسياً عمودياً داخل القيادة الأمريكية كالتالي:

1-سياسة الانكفاء للداخل وإعادة هيبة أمريكا وقوّتها الاقتصادية من خلال ابتزاز أتباعه وحلفائه بحجة حمايتهم من عدو مفترض، دون أي تغيير في بنية نظامه وعدم توريط قوتها العسكرية في حروب (عبثية).

2- سياسة الاستمرار بعولمة النظام الرأسمالي الأمريكي قطباً أوحد دون أي تغيير في بنية نظامه السياسي، والقيام بتغيير قسري في نظم دول الشرق الأوسط وقياداتها باستخدام القوة وإثارة الحروب بالوكالة، تحت شعار الديمقراطية والحرية الفردية وحقوق الإنسان، بهدف السيطرة على مقدراتها ومواردها.

3- سياسة التغيير في نظامه السياسي الاجتماعي الداخلي ينعكس إيجاباً على الطبقة الوسطى والطبقة العاملة الأمريكية وشيء ما للشريحة الشعبية المتدنية التي تشكل الغالبية العظمى للمجتمع الأمريكي، مع الاستمرار بسياساته الخارجية وبسط سيطرة النظام الرأسمالي على العالم اقتصادياً وعسكرياً، وإني أرى أن هذا الاتجاه هو الذي سيقود أمريكا في هذه المرحلة. وأمام هذه المتغيرات المتسارعة والمتشابكة، بات العالم اليوم يعيش التناقضات التالية:

 -التناقض الأول: هو الصراع الدائر فيما بين الأقطاب المتعددة للرأسمالية العالمية ومرتكزاتها الشرق أوسطية على مناطق النفوذ في الشرق الأوسط.

-التناقض الثاني: صراع دائر ما بين الأقطاب الرأسمالية ومرتكزاتها تلك مجتمعة من جهة، وأنظمة دول شرق الأوسط التي أسست بويتات مال جعلت من نظمها الاقتصادية تابعة للنظام الرأسمالي العالمي ومهدت لتحقيق شروط صندوق النقد والبنك الدوليين على حساب لقمة عيش شعوبها، من جهة أخرى، والتي لم يشفع لها ذلك.

-التناقض الثالث: يكمن ما بين الأقطاب الرأسمالية العالمية ومرتكزاتها الإقليمية والسلطات المحلية مجتمعة من جهة، وشعوب دول شرق الأوسط الراغبة بالتغيير الذي آن أوانه من جهة أخرى. تلك التناقضات باتت صعبة الحل بسبب تشابكها وتعدد أطرافها، لذلك طالت النزاعات والصراعات والحروب المتنوعة في الشرق الأوسط، بالوكالة تارة، وبالتدخلات المباشرة من قبل القوى الرأسمالية الغازية تارة أخرى.

والظاهرة الجديدة في هذه الصراعات والحروب، هي: إن القوى الرأسمالية ومرتكزاتها قد أبعدت جيوشها النظامية، واستخدمت بدلاً منها المليشيات المسلحة المحلية والعالمية بالوكالة تحت مسميات مختلفة ومتبدلة تتبدل حسب الحاجة. فباتت الشعوب ما بين سندان ممارسات حكوماتها القمعية، ومطرقة النظم الرأسمالية أو مرتكزاتها المحلية والميليشيات المسلحة غير النظامية، لأنه مع بدء إطلاق الشرارة الأولى في تونس لبدء (الربيع العربي) كطعم يغرر الجماهير المتضررة من ممارسات نظمها وحكوماتها للنزول إلى الشارع مطالبة بإجراء الاصلاحات، أو التغيير العميق في بنية نظمها الاقتصادية والاجتماعية، لتلبي طموحاتها، قد أسرع التحالف الرأسمالي ومرتكزاته واستخباراته لتستغل الحراك الشعبي والمظاهرات السلمية معلنة تأييدها لها، لا من اجل أحقية مطالبها، بل من أجل إسقاط نظم دولها وجعلها دولاً فاشلة وتعيد ترتيبها باسم شرق أوسط جديد. 

فماذا كانت ردة فعل الدول المستهدفة لمجابهة ما سمي بـ (الربيع العربي)؟

لقد لجأت أنظمة تلك الدول إلى اتهام الحراك الشعبي العفوي بالخيانة والعمالة، وعالجته بأساليب أمنية قمعية، بدلاً من تلبية مطالبها والقيام بإصلاحات ضرورية، مما مهد بذلك الأرضية للمندسّين المأجورين لصالح الأجندات الخارجية، ليحولوا الحراك الشعبي السلمي إلى حراك مسلح، عبر ممارسة القتل من الطرفين، وتم تدويل تلك الصراعات تقودها قادة النظم الرأسمالية ومرتكزاتها الإقليمية عبر وكلائها ومرتزقتها من المليشيات المسلحة، ليصبحوا هم أصحاب القرار في وقف الحروب الدائرة والبدء بعملية التسوية وبما يخدم مصالحهم وتوزيع مناطق النفوذ فيما بينها على حساب شعوب المنطقة المغلوبة على أمرها، والتي فقدت مكتسباتها الاقتصادية والاجتماعية، التي حققتها بنضالها الشاق والطويل.

وعلى المسار نفسه كانت الأزمة السورية التي طال عمرها، ودُمّرت بنيتها التحتية وهُجّر شعبها وجُوّع من بقي منه، والذي بات فريسة الفاسدين ممن كانوا في المفاصل الأساسية للسلطة، وادعوا أنهم معارضة وتسلقوا ظهر الحراك الشعبي السلمي بشعار (إسقاط النظام)علماً أن السلطة هي من كانت الأكثر استفادة منه، والأكثر تكريساً لسلبياته وتشويهاً لإيجابياته وكانت سبباً في تخلفه الديمقراطي والاجتماعي، وهي كانت العصا في عجلة تطور النظام الاقتصادي الاجتماعي التقدمي الموجه لخدمة الجماهير الكادحة، وهي كانت صاحبة المشاريع الشوفينية العنصرية والقوانين الاستثنائية بحق الشعب الكردي السوري، من أجل ضرب الوحدة الوطنية، وفك التلاحم الوطني الذي تميز به الشعب السوري عبر تاريخه الطويل لمجابهة الغزوات الاستعمارية، لأن هذا التلاحم الوطني كان هو الحصن المنيع لسورية، وهو القوة الرادعة في أي دولة مدنية ديمقراطية، وبذلك فتحت ثغرات ليتغلغل من خلالها العدو الخارجي ويستثمرها المرتزقة وتجار الحروب والأزمات والساسة الذين ينفذون الأجندات الخارجية، لإضعاف الدولة السورية وتفكيكها، تنفيذاً لتعليمات النظام الرأسمالي ومراكزه المالية المتمثلة بصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، لأن أولئك الذين ادّعوا المعارضة، كانوا من بقايا الطبقة الإقطاعية وأبنائها، وبهدف الانتقام من عملية الإصلاح الزراعي وقرارات الاستيلاء على أراضيهم ومنحها للفلاحين، قد تسللوا إلى صفوف حزب البعث، وتبوؤا مراكز ومفاصل أساسية في السلطة، ومن خلال ممارسة الفساد ونهب مال العام، وبسبب غياب المحاسبة، تحولت إلى برجوازية طفيلية وبيروقراطية وأدوات للنظام الرأسمالي العالمي، من أجل تدمير كل ما هو تقدمي وديمقراطي في المجتمع السوري والدولة السورية، وضرب التلاحم الوطني فيما بين الجماهير الكادحة المبني على الأساس الوطني والطبقي والأممي، ولتكرس التخلف الاقتصادي والاجتماعي، ونشر الثقافة المبتذلة والاستهلاكية للحداثة الرأسمالية، وتبني النظام الاقتصادي النيوليبرالي الريعي الاستهلاكي، وهم الذين مهدوا للاحتجاجات الشعبية والمظاهرات المطالبة بالإصلاح وتحسين الأوضاع المعيشية للجماهير المتضررة من ممارساتهم تلك، وبالرغم من أحقية المعارضة المطالبة بالإصلاح وتلبية مطالب الجماهير، إلا أن تلك الفئة التي كان منها قادة في الحزب الحاكم وكانت في مفاصل الحكومة وانتقلت للمعارضة، ينطبق عليها مقولة (حق يراد به باطل).

ومع بدء الشريحة الطبقية التي عانت من التهميش والتجويع والمس بكرامتها، مطالبة حكوماتها عبر احتجاجات ومظاهرات، عفوية ومنظمة، بالإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، إلا أنها جوبهت بالقمع واستخدام القوة المفرطة، فاستغلها مراكز النظام الرأسمالي العالمي واستخباراتها، من خلال عملائها المحليين، التي ادعت تأييدها وحمايتها لتلك الانتفاضات لا من أجل أحقية مطالبها بل من أجل تنفيذ أجندات هذه المراكز ومخططاتها، فبررت بذلك للسلطات قمعها للمتظاهرين وتخوين المشاركين فيها، وتحولت بفعل فاعل إلى حرب أهلية بغطاء طائفي مقيت وفق أجندات خارجية، مهدت للتدخل الأجنبي والقوى الرأسمالية المتوحشة ومرتكزاتها كقوى محتلة، بذريعة مكافحة قوى الإرهاب التي هم المؤسسون لها تحت تسميات مختلفة. واتضح يوماً بعد يوم صراع النفوذ لتلك القوى العالمية ومرتكزاتها الإقليمية والتي أشعلت حروباً ومعارك متعددة الأطراف بالوكالة على أرض البلدان العربية مثل اليمن وليبيا وسورية والعراق، والتي دمرت البنية التحتية لها ونهبت خيراتها من النفط وغيره، وهجرت شعوبها وجعلت ممن تبقى من الفقراء وقوداً لها وتجويعها بفعل تجار الأزمات والحروب، الذين يصولون ويجولون دون حسيب أو رقيب، إضافة إلى أمراء الحروب الذين يقودون المليشيات المسلحة المرتزقة ويتحكمون برقاب الشعوب المستضعفة والفقيرة ويسوقونهم عنوة إلى ساحات المعارك رغماً عنهم، ليمهدوا بذلك (لتجزئة المجزّأ وتفتيت المفتّت) وإنشاء إمارات فيها تحت مسميات عدة.

فما العمل لإنقاذ هذه البلدان من براثن الإرهاب والتفتيت، والبدء ببناء الدولة الوطنية والمواطنة وذات السيادة الكاملة، وتحافظ على خيراتها من أجل شعوبها كافة على قاعدة التوزيع العادل للثروة وتحقيق العدالة الاجتماعية؟

كان يُفترض بالقوى اليسارية التقدمية والماركسية والشيوعية أن تقود الحراك الشعبي من أجل التغيير، باعتبارها حامل التغيير الحقيقي في مواجهة النظام الرأسمالي الإمبريالي العالمي، إلا أنها باتت غير قادرة على ذلك، بسبب محاربة تلك الأنظمة لها وقمعها وإبعاد الجماهير عنها، في الوقت الذي كانت هذه الأنظمة تمهد الطريق لتقوية القوى الدينية والرجعية، التي باتت فيما بعد عبئاً عليها، على حساب إضعاف قوى اليسار عموماً والأحزاب الشيوعية خصوصاً، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تقهقر الحركة الشيوعية واليسارية العالمية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي الذي كان هو السند القوي والمشجع للتغيير ودعم الشعوب المضطهدة في كل المجالات.

 وفي الشأن السوري، لقد بات معروفاً للجميع أن سورية باتت ساحة للصراع الدائر بين الأقطاب الرأسمالية العالمية ومرتكزاتها، وليعلم الجميع أن روسيا وإيران اللتين ساندتا الدولة السورية ومجابهتهما للتحالف الأمريكي ومرتكزاتها إسرائيل وتركيا على الأرض السورية، لا يعني أنه صراع فكري أو إيديولوجي أو طبقي أو حتى عرقي أو طائفي، إنما هو صراع على النفوذ في الشرق الأوسط، لأن روسيا هي جزء لا يتجزأ من النظام الرأسمالي العالمي الجديد، والدليل على ذلك يوجد فيما بين روسيا وإيران وتركيا تفاهمات حول الأزمة السورية وعملية التسوية المرتقبة هذا من جهة، وكذلك توجد تفاهمات روسية أمريكية إسرائيلية وتركية من جهة أخرى، وكل تلك التفاهمات تُبنى من أجل توزيع مناطق النفوذ فيما بينها، وتحقيق مصالح كل منها، وفي الوقت الذي نحبذ تلك المساعدة من روسيا وإيران كمحور لمجابهة النظام الرأسمالي الأمريكي، ولكن يجب ألا تكون على حساب الوطن السوري أو سيادته أو وحدته أو مصلحة شعبه بكل مكوناته وتلاحمه الوطني. فما العمل من أجل الحفاظ على المصلحة الوطنية لبلدنا، وحل أزمته بما يخدم الشعب السوري عامة دون تمييز في سورية الموحدة أرضاً وشعباً؟

إني أرى أن من يجب أن يقوم بهذه المهمة هو الأحزاب الشيوعية السورية بفصائلها المتعددة وكل القوى التقدمية واليسارية السورية والقوى البرجوازية الوطنية المنتجة من الطبقة الوسطى المتبقية والمنظمات والنقابات الشعبية والمهنية، بعيداً عن التيارات ذات التعصب القومي والديني، والتي استنفدت دورها وفشلت في إنجاز مهام التحرر الوطني والاجتماعي والاقتصادي وبناء الدولة الوطنية وتحقيق مبدأ المواطنة وسيادة القانون، ولأن الحكومات المتعاقبة من خلال إجراءاتها وتحولاتها الاقتصادية فيما بعد منتصف التسعينيات من القرن الماضي، وعمليات الفساد في القطاع العام والقطاع التعاوني، أساءت للنظام الاقتصادي المخطط ذي التوجه الاشتراكي، وشوهته في نظر الجماهير الشعبية التي كانت مستفيدة منه، لتوفر بذلك شروط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ولتبرر عملية انتقال النظام الاقتصادي السوري إلى النظام النيوليبرالي واقتصاد السوق الحر. وليعلم القارئ السوري الكريم وكل المتضررين من هذه الأزمة، أن من يطيل عمر الأزمة السورية هي القوى المستفيدة من استمرارها، وهي تشمل الفاسدين وتجار الأزمة وأمراء الحرب الموجودين داخل كل أطراف الصراع السورية، ولذلك يخلقون بؤر التوتر والصراع التي تديرها القوى الإقليمية والدول العظمى لتنفيذ أجندتها وتحقيق مصالحها، بالتفاهم فيما بينها على حساب مصلحة وسيادة الدولة السورية.

لذلك فالمطلوب من كل القوى الوطنية الحريصة على مصلحة الشعب السوري والدولة السورية، وفي مقدمتها الأحزاب الشيوعية واليسارية والتقدمية، الإسراع والتمهيد لبدء الحوار السوري السوري وفي داخل سورية، ومن خلال عقد مؤتمر إنقاذ وطني تُدعى إليه كل القوى السياسية الوطنية من الموالاة والمعارضة التي تمثل كل المكونات الاجتماعية السورية الرافضة لأجندات القوى الخارجية والمصالح الفئوية الضيقة، وذلك من أجل الوصول إلى دستور وطني جامع يضمن حقوق الشعب السوري بمكوناته وأفراده على قدم المساواة، ويشرع لاستقلالية القضاء والجيش كمؤسستين وطنيتين غير مسيستين، ومبدأ فصل السلطات وفصل الدين عن السياسة، وينص على مبدأ تكافؤ الفرص في الانتخابات الديمقراطية والنزيهة لتداول السلطة السلمي وبرعاية منظمات حقوقية مدنية وطنية ودولية.

العدد 1104 - 24/4/2024