الواقع والحاجة إلى معالجات ملحّة
علم الدين أبو عاصي (رئيس اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوري الموحد):
تواجه بلادنا منذ عشر سنوات حرباً إرهابية، وقع في سياقها الكثير من المآسي والخسائر في الأرواح، وهدرت طاقات وثروات هائلة، وتواجه اليوم وباء كورونا، وحصاراً وعقوبات اقتصادية ظالمة وقاسية، جعلت عيش الفئات الشعبية عسيراً جداً.
إن نجاح بلادنا في مواجهة هذه العقوبات والحصار والوباء ودحر الإرهاب والاحتلال التركي والصهيوني والأمريكي، وحماية وحدة البلاد وسيادتها، يقتضي أولاً تأمين مصالح الفئات الواسعة من شعبنا من الفئات الدنيا والوسطى، وهي العماد الأساسي لصمود الوطن، وتأمين الاكتفاء الغذائي والدوائي، عن طريق دعم قوى الإنتاج الزراعي والصناعي والحرفي وتعزيزها، وفق خطط مركزية تنموية اقتصادية واجتماعية شاملة ومتوازنة، وتوسيع جبهات العمل المنتج للحد من البطالة، بدلاً من تضخيم الجهاز الإداري والتعيينات المؤقتة بهدف كسب ولاءات شعبوية طارئة.
إن السياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي اتبعت في العقود الأخيرة تتناقض مع المصالح المعيشية والاجتماعية للفئات الشعبية من العمال والفلاحين وكل أصحاب الدخل المحدود، وأعاقت عملية التنمية المتوازنة في البلاد، وهي ما يجب النضال للتخلي عنها، فمادام اقتصاد السوق المنفلت هو السائد فسيستمر تعمق التفاوت الطبقي والصراع الطبقي، رغم كل الحبر المسال والإعلام المضلل لطمسه، وتتولد عنه الأزمات حكماً، وتزداد معاناة الفئات الكادحة والمنتجة، بينما يزداد ثراء وفساد الفئات الاحتكارية والطفيلية والبيروقراطية والتابعة للرأسمال الخارجي.
لقد غدت الأوضاع المعيشية الصعبة وتكاليفها المرهقة التي يعاني منها شعبنا حالياً تتطلب معالجة غير مؤجلة، فهي تسحق تحت وطأتها قدرته على التحمل يوماً بعد يوم، وبالتالي إمكانية تحولها إلى مسارات بل انفجارات ذات احتمالات متعددة، قد يصعب السيطرة عليها، ويغدو الكلام عن الدور القيادي لأي تشكيل سياسي فاقداً لمعناه أمام الإفقار المستمر لمعظم الفئات الشعبية، الذي يقابله امتلاء خزائن الطفيليين، والفاسدين، ومافيات الابتزاز والاحتكار، وأمراء الحرب والمتلاعبين بالأسواق وحُماتهم وشركائهم من الأجهزة البيروقراطية.
إن النجاح في مهمة اجتياز الأزمة وعملية إعادة إعمار البلاد يتطلب تحقيق مهام التنمية الاقتصادية والاجتماعية وفق نموذج اقتصادي تعددي، يحقق التوازن بين النمو الاقتصادي ومتطلبات التنمية الاجتماعية، ومنها إعادة تأهيل وتحديث البنى التحتية، وتطوير المناطق المتخلفة اقتصادياً واجتماعياً، والعمل بكل صرامة وجدية للإفادة من حشد كل الطاقات المادية والبشرية المتاحة واستثمارها، وإعطاء الأولوية لإصلاح القطاع العام الصناعي والإنشائي والصحي والتعليمي وتطويره وتوسيعه.. والحفاظ على ملكية الدولة وإدارتها للمرافق الحيوية والاستراتيجية، كالمرافئ والمطارات والكهرباء والمياه.. فالمؤسسات المملوكة من الدولة هي الأكثر ضمانة وقدرة على تلبية الاحتياجات الضرورية وقت الأزمات، ولقيام الدولة بدورها الرعائي والتدخلي والتحسين المستمر لمعيشة السكان، وتأمين الحد المقبول من إعادة توزيع الثروة لصالح الفئات المسحوقة والمنتجة للخيرات المادية.
ومن الضروري أن يترافق ذلك مع تعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني، وتوسيع دائرة المشاركة والمداولة مع أوسع الفئات والقوى السياسية الوطنية والتقدمية في اقتراح المعالجات، واتخاذ القرارات، وتحمل المسؤوليات بعيداً عن نهج التفرد والإقصاء، وبما يحقق الانسجام والتناغم لأوسع الفئات الاجتماعية، ويحقق مبدأ المواطنة، والعدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص وتطبيق القانون على الجميع، والمكافحة الفحالة لكل أشكال الفساد والمفسدين، فمكافحة الفساد واجتثاثه، تعد ضرورة وطنية وسياسية واجتماعية وانسانية، ومطلباً ملحاً، يُجمع عليه كل الغيورين على المصلحة الوطنية، وأيضاً اتخاذ إجراءات حازمة في مكافحة التهريب والتهرب الضريبي واستعادة الأموال العامة المنهوبة، أي بناء الدولة الحديثة الديمقراطية العلمانية، فقد أكد حزبنا الشيوعي السوري الموحد منذ بداية الأزمة، أن الصيغة السياسية التي تدار بها البلاد حتى الآن غدت غير ملائمة لمتطلبات المرحلة القادمة.
ونؤكد هنا، أن الديمقراطية نظام متكامل لا يستقيم إلا مع الدولة العلمانية وجعل المواطنة نمط حياة، فعلمنة الدولة هي إحدى أهم القضايا التي يجب النضال من أجلها، ففي مجتمع متعدد الطوائف والأديان والأعراق، إذا لم تكن المواطنة هي الأساس، فالبديل هو الخراب، أما الديمقراطية التي تتمثل بصناديق الانتخاب فقط، ويفقد المنتخبون بعدها قدرتهم على المراقبة والمحاسبة للمؤسسات والممثلين المنتخبين، فهي ديمقراطية مجتزأة، وتبين التجارب أن عملية الاقتراع إن لم تكن في مجتمع سياسي مدني، تتحول إلى شكل خال من المضمون.
فالدولة العلمانية الديمقراطية هي الطريق الأمثل لمواجهة الأخطار، وبتوحيد جهود قوى التنوع والتعدد العرقي والقومي والديني في بوتقة الوطن، ولقيام مؤسسات حقيقية بصلاحيات كاملة ومسؤولة، ومنتخبة من الشعب وفق انتخابات حرة ونزيهة، يشرف عليها لجان ملتزمة بالحياد، وبالتالي فهي السبيل لتأمين المساواة في الحقوق والواجبات على أساس مبادئ المواطنة المتساوية.