الشباب السوري وضرورة إعادة النظر في فلسفة التعليم عندنا

يونس صالح:

مثل ألوان الطبيعة باهتاً ومتداخلاً، يبدو مشهد الشباب السوري صورة حافلة بالتناقضات والغضب أحياناً، والقسوة والعجز في أحيان أخرى، كأننا أمام قنبلة موقوتة، تتلاحق دقاتها في إيقاع حتمي يجعلنا ندرك دوماً أننا على حافة انفجار ما، ولكن متى.. وأين؟ حتى الآن نحن لا ندري حقاً.

ولعل الذي دفع هذا الحديث إلى الخاطر هو ارتفاع الطنين عندنا وفي أجهزتنا الإعلامية حول الشباب ومشاكله، وهم يقصدون فقط قطاعاً واحداً من هذا الشباب، ذلك الذي سيغادر مقاعد الدراسة في المدارس والجامعات بعد أشهر قليلة ويستعد لقضاء الصيف تحت شمس من المشاكل اللاهبة، فهذه القضية تفرض نفسها بحدة في كل يوم لدرجة أن الدولة عاجزة عن التقدم والحركة، لأنها عاجزة عن كيفية معالجتها.

إن المجتمع السوري يمر بتغيرات جذرية عميقة شملت الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ورغم ما يبدو من ثبات ظاهري على الهرم السياسي، فإن قاع المجتمع يمر بتيارات عنيفة من التغيرات لا أظن أنها لن تؤثر على ثبات هذا الهرم.

ولعل أكثر المتأثرين بهذه التغيرات المتلاحقة هم الشباب، ونعني بالشباب هنا تلك الشريحة العمرية التي تمتد من سن 15 إلى 30 من العمر، وقد اختلف علماء التربية وعلم النفس في تحديد خصائص هذه المرحلة وطولها، ولكنها المرحلة التي تشهد تحولات وتغيرات جوهرية في اهتمامات الشباب وسلوكه الاجتماعي واتجاهه نحو الاستقلال والفردية، ولعل هذا هو ما يخلق التناقض بينه وبين البيئة التقليدية التي تحيط به، فهو يريد أن يحرر نفسه من قيود الأسرة والمدرسة التي قيدته طويلاً، وهو يريد في تلك المرحلة أيضاً أن يختار محيطه الاجتماعي الذي يندمج فيه ويتكامل معه ويكون قادراً على اتخاذ القرار وتحقيق ذاته.

ولعل هذه الفئة العمرية هي المعنية بعصر العولمة وقضاياه ومشكلاته، فالعولمة مشروع كوني للمستقبل كما يطمح واضعوه ومفكروه والداعون إليه، لذا فإن الجيل الجديد هو الأسبق بالتعاطي مع هذه العولمة وإدارتها، فالكمبيوتر والإنترنت وشبكات المعلومات المعقدة أصبحت في متناول أيدي الشباب في سهولة ويسر، بينما تعتبر هذه الأشياء بالنسبة للأجيال الأكبر معضلة، كما أن أنماط المعيشة التي تطرحها العولمة من مأكل ومشرب وعادات ثقافية موجهة بالدرجة الأولى لأجيال الشباب، لأنهم الأقدر على الاستجابة والتقبل السريع لأي مفاهيم جديدة خارجة عن المألوف.

إن أجيالنا الشابة تشكل اليوم نسبة غالبة من مجموع السكان في بلادنا رغم كل مآسي الأزمة، وتدل الإحصاءات التقريبية على أنهم يشكلون نصف عدد السكان، نحن إذاً أمام ملايين من الشباب يتوقون إلى الأداء السريع وإحراز النتائج الفعالة، أي أنهم يريدون أن ينهضوا ببلادنا في نهاية الخمس الأول من القرن الحادي والعشرين، في الوقت الذي نعاني فيه من تقاليد قبلية وفئوية وطائفية خانقة، وتخلفاً وفساداً مستشرياً في العديد من البنى السياسي والاجتماعية ومن محاولات مستميته لإبعادهم وتهميشهم في الحياة الاجتماعية.

لكن المشهد لدينا حزين جداً، ومن هنا فمن الضروري تشخيص الحالة بدقة، لعل ذلك يساعد على التقدم خطوة للأمام بدلاً من دفن الرؤوس في الرمل.

إن شبابنا الذي يمثل الطلاب ثلثه أو نصفه مازال يخضع لأنظمة تعليمية واجتماعية غير صالحة للعصر الذي يعيشون فيه، ولا تلبي مطالب حياتهم اليومية، فلا تزال المناهج التعليمية والمقررات الدراسية قاصرة، ولايزال التدجين والريبة من الشباب وأفكارهم وطموحاتهم قائماً، ولا تزال توضع الحواجز أمامهم لكبح جماح رغباتهم ومحاصرة طموحاتهم، ومازال يُدفع بأعداد كبيرة منهم وخاصة المتعلمين إلى البحث عن مجتمعات جديدة تفتح لهم مجالاً لتحقيق طموحاتهم وتلبي رغباتهم وأحلامهم، فامتصت الدول المتقدمة نخبة المتعلمين من الشباب السوري، ووصلت أعدادهم إلى عشرات الآلاف، ومن بقي حبيس مجتمعه تحول إلى أدوار متفجرة سياسياً أحياناً واجتماعياً أخرى.

 فجزء منه انجرف وراء الجريمة والمخدرات وهو جزء لا يستهان به، وجزء آخر كبير جذبته قوى التطرف وتحول إلى أدوات حادة ومعاول هدم للمجتمع.

كما أن قسماً كبيراً منهم أيضاً يعيش أزمة اغتراب حقيقي، وقد أكدت بعض الدراسات أن مواجهة الشباب بالنظام البيروقراطي غير الديمقراطي تجعل من دورهم ينحصر في الخضوع له والالتزام بقوانينه، مما يشعر بالعجز وعدم القدرة على تحقيق ذاته، والاغتراب هنا هو مرحلة وسطى بين الانسحاب من المجتمع والتمرد عليه.

إن استمرار تجاهل قضية الشباب وعدم معالجة ما يلاقيه من تدهور في مناهج التعليم، وابتعاد الشباب عن الاهتمام بالسياسة، وجهلهم بتاريخ أوطانهم، وموقف اللامبالاة مما يجري حولهم، هو نتيجة حتمية لسياسة التجاهل لمواجهة قضاياهم، وقد حولتهم تلك المشاعر المتناقضة في داخلهم إلى مخزن يغرف منه كل من لديه مصلحة خاصة في تجنيدهم واستخدامهم.

إن شبابنا اليوم إما أن يكونوا الأداة الأولى في بعث نهضة حديثة لبلادنا وشعبنا، وإما أن يتحولوا إلى وسيلة لتدمير ما بنته الأجيال السابقة، وهذا ما حدث ويحدث، وليس أمامنا كثير من الخيارات ولا الكثير من الوقت، فنحن والزمن في سباق مميت. يجب وضع قضية الشباب في مقدمة المسائل الوطنية، والعمل على وضع الحلول وتطبيقها لمصلحة أجيال الشباب، وقبل أن يتجاوزنا الزمن لابد من الاعتراف أولاً بأن نوعية تعليمنا ومستواه لا تتناسبان مع العصر، فالعالم حولنا يتحدث بشكل دوري عن (نوعية التعليم) الذي يحتاج إليه في كل مرحلة من التطور المجتمعي، وربط هذا التعليم بتطور الحياة في المجتمع، في الوقت الذي يجري الحديث عندنا عن الأمية وتزايدها، وتدهور مدارسنا وتسرب أطفالنا من المدارس وغيرها.

لابد لمواجهة هذا التدهور من إعادة النظر في فلسفة التعليم عندنا، والتحول من أسلوب الحفظ والتلقين، من دور الطالب متلقياً ومطيعاً لما يلقنه إياه معلمه، إلى فلسفة التعليم عن طريق الحوار والمناقشة والتدريب على التعلم الذاتي، وأن يتم دمج التعليم بالثقافة بشكل متواز، ومن ثم لابد من إقحام الشباب للمشاركة وسماع رأيهم في اتخاذ القرارات السياسية والاجتماعية وتوسيع دورهم في المشاركة في كل ما يتعلق بحياتهم ومتطلباتهم وطموحاتهم، والتخلي تماماً عن سياسة التمييز تجاه الشباب انطلاقاً من الانتماءات الحزبية أو الطائفية أو المذهبية أو السياسية أو المناطقية وغيرها.

إن نظرة سريعة على واقع شبابنا اليوم تكشف لنا مدى عزوف قسم كبير منهم عن المشاركة في قضايا المجتمع والابتعاد عن النشاطات السياسية والاجتماعية، وهذا ناتج عن طول أمد الاستبعاد الذي مورس ضد الشباب وعزلهم عن الحياة العامة وخاصة السياسية في المدارس والجامعات أو المنظمات الشعبية وغيرها.

إن جزءاً كبيراً من شبابنا اليوم يسعى خلف الإعلام الخارجي باحثاً عن الحقيقة التي بدأ يشكك في صدقها في إعلامه الرسمي، متصوراً أنه سيجدها عن الآخر، وهذا الأمر يشير إلى سهولة السقوط تحت تأثير أي إعلام معاد لوطنه وتراثه الثقافي والحضاري، وسيرتكب خطأ من يتصور أن بالإمكان الاستمرار في إبعاد الجيل الشاب من المشاركة الكاملة في إدارة شؤون حياته ورسم مستقبله. لا يمكن ضبط إيقاع الحياة دون الشباب ومشاركتهم الكاملة، وقد دلت الدراسات الحديثة على أن المجتمعات التي تتعرض للتغير التقني السريع، لا يعود الآباء فيها يملكون ما يقدمونه لأبنائهم، لأن معارفهم تفقد ملاءمتها للواقع الجديد المستجد، فكيف بزمان كزماننا الذي فاقت سرعة التغير التقني فيه بملايين المرات سرعة التغيرات التقنية التي أصابت المجتمعات البشرية القديمة؟!

العدد 1104 - 24/4/2024