الموت بين حلمين

د. أحمد ديركي:

تشكل الأحلام أحد العناصر الأساسية من بنية عملية (الترقي الاجتماعي).  فالحلم ليس ما يراه الإنسان في حالة النوم، بل المقصود ذاك (الحلم) أو (الأحلام) التي تشكلها الأنظمة السياسية القائمة، وبذلك يكون (الحلم) أحد أدوات السلطة السياسية لتشويه الوعي الطبقي. وهنا يلعب (الحلم)، والأصح إمكانية تحقيق (الحلم)، بـ(الترقي الاجتماعي) كصمام أمان لكبح تشكل الوعي الطبقي.

لا يعني هذا أن (الحلم) بكل صيغه المشكلة من قبل النظام السياسي تعمل على تشويه الوعي الطبقي، بل يمكن للوعي الطبقي الحقيقي أن يعمل على تشكيل (حلمه) المعتمد على أسس الاشتراكية العلمية ليكون تحقيق (الحلم) أمراً واقعاً وحتمياً. وعندما تتحول الأفكار، الحلم، إلى سلاح في يد الطبقة العاملة، حينئذٍ يمكن أن تحقّق الإنسانية حلمها.

حالياً لا يوجد حلم واسع الانتشار سوى (حلم) واحد؛ ذاك (الحلم) المشوّه للوعي الطبقي والمتسيد على المستوى الاجتماعي في معظم دول العالم، وهو مصنع في أوربا أو الولايات المتحدة الأمريكية.

     بكونه (الحلم) المتسيد على المستوى العالمي تسعى المجتمعات، تقريباً كل المجتمعات البشرية، إلى تحقيقه. وهناك أكثر من (حامٍ) متسيّد، وكلها تتشكل في دول المركز. ويمكن تقسيم هذه الأحلام إلى نوعين من (الحلم).  نعم، نوعين من (حلم) واحد، ويعود هذا إلى أن جوهر النوعين من (الحلم) يقوم على الأسس عينها. ومن أبرزها (الحلم الأوربي) و(الحلم الأمريكي).

يقوم (الحلم الأوربي)، مثله مثل (الأمريكي)، على قاعدة إمكانية (الترقي الاجتماعي). و(الترقي الاجتماعي) بشكل مختصر يعني إمكانية انتقال الأفراد من طبقة اجتماعية إلى أخرى، وبتحديد أكثر تعني الانتقال من طبقة (دونية) إلى طبقة أرقى.

يوهم (الحلم الأمريكي)، و(الأوربي)، أنه بالعمل الجدي والمجد، والصحة الجيدة، وإمكانية (الإبداع)، وهي عنصر مضاف حديثاً، يمكن للفرد الاجتماعي أن يترقى من طبقة إلى أخرى من دون أي عوائق تذكر.

وقد عمل النظام السياسي المُصنّع للحلم، وحليفته الطبقة البرجوازية، على تعميم فكرة أن النظام السياسي قام بما عليه فعله في إزالة معظم العوائق المعيقة لعملية (الترقي الاجتماعي)، إن لم يكن كلها. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يجري الإيهام بإزالة مسألة التمييز الجنسي ما بين المذكر والمؤنث على كل المستويات، من حق التعلم وصولاً إلى (التنافسية) في سوق العمل والمناصب السياسية. الإيهام بإزالة (تمييز الأصول) أي إن كنت من أصول (أوربية) أو لا، من أصول (أمريكية) أو لا، ما دمت تحمل (جنسية) هذا البلد أو ذاك يحق لك (الترقي الاجتماعي).  وبشكل مختصر أيضاً الإيهام بإزالة كل العوائق التي يمكنها أن تعيق (الترقي الاجتماعي) بخلق فكرة (الوطن) و(المواطنة).

وبهذا كل ما يبقى فعله لنيل (الترقي الاجتماعي) يعود إلى عمل (الفرد) ولا علاقة للنظام السياسي به، وصولاً إلى حد أن النظام السياسي لا يتحمل أي مسؤولية تجاه (الفرد) إن فشل في عملية (الترقي الاجتماعي).  فالنظام السياسي قد جهز كل شيء (للفرد) (سوبرمان)!

ومن هنا تأتي بقية أدوات النظام السياسي لتستكمل تشكيل (الحلم).  ومن هذه الأدوات النظام التعليمي، والدعاية والإعلام والرويات والأفلام و… وبهذا تسيّد (الحلم) الأوربي، والأمريكي، العالم!!

وفي وطننا العربي كذلك فعلت أنظمته السياسية، شكّلت (الحلم) على شاكلة (الحلم) الأوربي، والأمريكي، ولكنها فشلت، بكل ما في الكلمة من معنى، بجعله (الحلم) الذي يحلم بتحقيقه أي فرد عربي. وتعود أسباب الفشل لعدة عوامل نذكر بعضها فقط:

 1) القضاء، عن قصد، على عملية (حلم) الترقي الاجتماعي.

2) الفشل في بناء (وطن) و(مواطن).

3) الفشل في إلغاء التمييز ما بين المذكر والمؤنث في معظم جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

4) الفشل في الفصل ما بين الدولة والدين

5) الفشل في إلغاء مسألة (الأصل) و…إلخ. مجموع عوامل الفشل حقق نجاحاً باهراً قامت به الأنظمة العربية: سحق الحلم وتحويله إلى (الكابوس العربي).  وما المؤشرات التي تمييز العالم العربي إلا خير دليل على هذا: أعلى نسب فقر في العالم، أعلى نسب أمية، أعلى مستويات قمع للحريات، أعلى نسب تمركز للثروة و….غير ذلك كثير.

فحمل الفرد العربي كابوسه وحاول الهروب إلى (الحلم) الأوربي، أو الأمريكي، وهنا كان سماسرة الموت بالانتظار، مع لحظ أن معظ السماسرة عرب!! لينقلوا (كابوس) الفرد العربي إلى الحلم عبر البحر أو البر أو الجو بطرق لا شرعية. غير مهم إن وصل الفرد العربي حياً أو ميتاً لأن أجرة النقل تدفع سلفاً، فيموت بين الحلمين من دون أن يعي لماذا قُتل؟

العدد 1102 - 03/4/2024