من يقف خلف مشروع الإدارة الذاتية في الجزيرة السورية؟


اللامركزية الإدارية، هي طريقة في الإدارة تعطي الأطراف استقلالية خاصة بإدارة شؤون الموارد والإنماء والإعمار، بعيداً عن تدخلات السلطة المركزية، قد تكون إيجابية في مكان وسلبية في مكان آخر.
يعود ذلك إلى طبيعة نظام الحكم ونهجه السائد في المنطقة المقصودة، قد تشكل هذه الاستقلالية المزيد من التوسع بالصلاحيات، وتنوع طرق إدارة الاقتصاد والتنمية، وتساهم في تشكيل الهيئات الإدارية، والقضائية بما ينسجم مع طبيعة المنطقة المعنية وبنيتها، وهذا لا يمنع نشوء صراعات جديدة متوافقة مع مفهوم الأكثرية، والأقلية، ما دام أحد أسباب المطالبة بالإدارة الذاتية هو ردة فعل على ذلك المفهوم الذي يعتبر أن المحافظات البعيدة أقلية حقيقية بالنسبة لمراكز المدن الكبرى، في المنطقة المشار إليها يلعب الانتماء الطائفي والمذهبي والقومي والعشائري الدور الأبرز في تشكيل قيادات الإدارة اللامركزية التي تحمل معها مشروعاً تسلطياً انسجاماً مع موقفها النضالي ضد المركزية، لتشكل إطاراً خاصاً بها تتسلط من خلاله على الأقليات العددية بحكم قانون الانتخاب المكاني، الذي يحرم الأقليات من الوصول إلى موقع المسؤولية، ما دام القانون الناظم لكل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، يرتكز على عقلية المحاصصة بأشكالها المختلفة.
لذلك ستبقى المحاصصة والصراع لصالح الأغلبية هي سقف التطلعات للمطالبين بالإدارة الذاتية في زمن الانقسامات والتشظي.
إن هذه الطريقة في الإدارة تساهم في التغييب التدريجي لفكرة المواطنة الكاملة وتضيّع حقوق الأقليات الذين لا يمكنهم الاندماج في لعبة الصراع على السلطة.
السؤال الذي يحتاج للإجابة عليه، والحوار وحوله:

ما هي الجهات المستفيدة من إقامة إدارة لامركزية، ومن هي الجهات التي تخسر في حال تم تطبيق تلك الادارة؟!
هل فشلت الدولة المركزية في تحقيق مواطنة كاملة لجميع المواطنين؟

كيف فشلت؟ هل بسبب عدم وجود قانون مواطنة أم بسبب عدم تطبيق القانون؟!
هل تجميع القوى الوطنية يعاكس مصلحة المواطنين!؟
إن الدولة المركزية الحقيقية هي دولة المؤسسات التي يتمثل المواطنون فيها عبر أحزاب وهيئات ونقابات وطنية بأشكال طبقية واجتماعية تتجاوز الانتماءات الضيقة، وتندمج فيها القوميات والأعراق والأديان، ليصبح جميع المواطنين تحت سقف القانون متساوين بالحقوق والواجبات، وكلما ازداد الاندماج حققت الدولة نجاحاً أكثر.
فالمطالبة بإدارة لامركزية هي شكل من أشكال التمرد، أو عدم رضا المطالبين بإدارة لامركزية عن إدارة الدولة من قبل السلطات التي تديرها في أحسن الأحوال.
 وتهدف إلى تقاسم السلطة عوضاً عن المشاركة بها، ومحاولة تصويب ما يمكن تصويبه بغية الوصول إلى أفضل النتائج.

هل انعدمت السبل لإيجاد حلول عقلانية بين الأطراف والمركز، حلول تمنع الوصول إلى المطالبة بإدارة ذاتية تؤسس لصفحة جديدة من التناقضات قابلة للتوظيف من قبل أطراف دولية وإقليمية تريد إضعاف الوطن بغية تحقيق مكاسب ومصالح خاصة.

إن الأسباب التي تقتضي المطالبة بإدارة لامركزية، قد تكون قابلة للنقاش لولا أنها تحمل في طياتها خطرين اثنين:

الأول، جاء بعد المطالبة من قبل بعض القائمين عليها بفيدرالية في الجزيرة السورية، وتم التراجع عن هذا المشروع بعد الانتكاسة التي حصلت في أربيل.
الثاني، العلاقة المشبوهة التي تشكلت بين المطالبين بإدارة ذاتية، والولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر الداعم الأكبر للكيان الصهيوني، والمدافعة عنه في جميع المحافل الدولية.
فهل يصدّق عاقلٌ أن الإدارة الأمريكية تريد خيراً لبلداننا بعد انكشاف علاقتها خلال سبعة عقود من الزمن تجاه القضايا العربية بشكل عام، وتجاه حقوق الشعب الفلسطيني بشكل خاص، ودعمها غير المحدود للكيان الغاصب والمحاصرة والتضييق على الشعب الفلسطيني الذي احتلت أرضه وشرد في جميع دول العالم!؟
فهل تقبل الإدارة الامريكية قيام فدرالية على الأراضي الفلسطينية؟!
لماذا تشجع على إدارة ذاتية في الجزيرة السورية بمكونات قومية ومذهبية تحمل معها خطراً حقيقياً على الديمقراطية التي تدّعي دعمها في العديد من البلدان؟
هل تقوم الديمقراطية على أسس طائفية وقومية، أو على أساس المواطنة؟!
ماهي الأسباب التي دفعت الإدارة الأمريكية لدعم الأكراد في شرق سورية والتخلي عنهم في تركيا؟!
هل الأكراد في سورية مضطهدين أكثر من اضطهادهم في تركيا؟!
لقد اختبر العالم صلاحية النسخة الأمريكية من الديمقراطية، في العديد من البلدان، وتم اكتشاف ماذا فعلت في العراق ولبنان، وماذا فعلت في السودان واليمن، ماذا تفعل في سورية وليبيا وفي العديد من البلدان!
إن الدوافع الأمريكية من خلال نشر نسختها الحديثة من الديمقراطية واضحة للجميع، فهي تهدف إلى إقامة شرق أوسط جديد، كما تريد أن تحقق من خلاله أمن الكيان الصهيوني، وتضمن تفوقه وقدرته على ضبط المنطقة بما ينسجم مع المصالح الأمريكية والصهيونية.
لذلك اعتمدت النسخة الحديثة للديمقراطية التي تعتمد على إبراز المكونات القومية، والطائفية، والمذهبية بغية استثمارها في تأجيج التناقضات بين الشعوب داخل الكيان الواحد بغية خلق صراعات جديدة تستخدمها في تحقيق غايتها بإقامة شرق أوسط جديد وفق الرؤية الأمريكية.
لماذا ركب أكراد الجزيرة السورية في القطار الأمريكي؟! رغم معرفة العديد من القيادات الكردية أن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية بدعم أمريكي هي التي كانت خلف اعتقال المناضل الأممي عبد الله أوجلان، الذي يعتبر رمزاً نضالياً عند غالبية الشعب الكردي وأطراف سياسية أخرى؟
ولماذا يتناسى الأكراد الدفاع عنه ولا يطالبون الإدارة الأمريكية بالضغط على النظام في تركيا للإفراج عنه؟!
وهل تستجيب الإدارة الامريكية لطلب من هذا النوع؟!
عندما أرادت أمريكا الإفراج عن القس الأمريكي المحجوز في تركيا صنعت المستحيل حتى أفرجت عنه!
لماذا لا تساعد أصدقاءها الأكراد بالضغط على تركيا للإفراج عنه؟!
أم هي ومن ركب معها في القاطرة لا يريدون الإفراج عن القيادي الكردي عبدالله أوجلان؟!
مشروع الإدارة الذاتية المطروح الآن في الجزيرة السورية يحمل معه مجموعة من الألغام القابلة للتفجير، ما دام يؤسّس على تعدديات قومية وطائفية وعشائرية، وجميع المكوّنات الموجودة داخله ليس لها مصلحة استراتيجية في قيام تشكيل مجتمعي وفق الرؤية الأمريكية بمكونات طائفية وقومية، باستثناء بعض المنتفعين هنا وهناك.
المصلحة الحقيقية لجميع السوريين في الداخل والخارج، هي في إقامة دولة المواطنة (الدولة الديمقراطية العلمانية) التي يعيش فيها جميع المواطنين بحقوق وواجبات متساوية. تتماهى فيها الانتماءات الطائفية والقومية والدينية، وتشكل نموذجاً فريداً للتعايش في منطقة الشرق الأوسط. وترفض أي تشكيلات حزبية أو سياسية أو اجتماعية على أسس دينية أو قومية. تقيم علاقات حسن جوار مع جميع الدول الإقليمية.
سورية دولة التعايش وليست عدوانية، ولم يسبق أن سجل المؤرخون حادثة واحدة تفيد أن السوريين قاموا بعدوان على أحد من دول الجوار، دائماً الاعتداء يأتي من خارج الحدود.
كل قومية أو طائفة في سورية هي جزء أصيل من مكوناتها وليس لمصلحة أي جزء من هذه الأجزاء سوى الاندماج والتماهي بالانتماء والعمل من أجل مستقبل أفضل لسورية وللسوريين.
ولن يتحقق ذلك ما دام بعض الأصوات الداخلية تتناغم مع أطراف خارجية في الإقليم أو خارجه.
في الختام أدعو الرفيقات والرفاق والصديقات والأصدقاء الأكراد ومن يتناغم معهم، الذين يعملون من أجل إدارة ذاتية لامركزية، أن يفكروا جيداً بأن مصلحة السوريين على اختلاف انتماءاتهم تتجسد بقيام دولة مركزية قوية علمانية ديمقراطية، تغيب فيها لغة الإقصاء والتمييز بين مواطن وآخر، وهذا لن يتحقق باستجداء ضغوط خارجية من أطراف لا تريد سورية قوية.
يتحقق ذلك بجمع الجهود والطاقات السورية المتعددة والعمل يداً واحدة لخروج سورية من الأزمة وتشكيل قوة ضغط مجتمعية وسياسية تفضي إلى تغييرات جذرية في بنية النظام ونهجه وصولاً إلى كتابة عقد اجتماعي توافقي جديد تسود فيه المساواة والعدالة الاجتماعية ودولة القانون التي تعطي جميع مواطنيها حقوقاً متساوية، بغض النظر عن أي انتماء ديني أو قومي أسوة بالبلدان المتحضّرة التي سبقتنا.

محمد علي شعبان

العدد 1104 - 24/4/2024