إنسانيتنا أهم من كل التوصيفات

إيمان أحمد ونوس:

في زمن تتصارع فيه الهويات حتى ضاقت الانتماءات، تناثرت أشلاء الإنسانية في مهب رياح التيه والتشتّت والضياع ما بين تلك الهويات والانتماءات التي لا شكّ قيّدت العقل والمنطق عن كل فعل يُخرجنا من تلك الدوامة العنيفة التي تُهدر فيها طاقات الجميع خلال بحثهم عن أمان منشود ما بين الدين والعلمانية. في حين أن كلا هذه الثنائية قد تعرّض للتشويه بما يكفي لتضيع قواعده وأسباب وجوده الأساسية في حياة الناس.

معلومٌ تماماً أن أوربا، قبل أن تتخذ من العلمانية نهجاً أساسياً في تنظيم أسس الدولة والمجتمع، قد عاشت صراعاً مشابهاً دام ردحاً طويلاً من الزمن، هُدِرَت فيه مختلف الطاقات البشرية، مثلما اغتيلت العقول والأدمغة المخالفة في اكتشافاتها العلمية لسلطان الكنيسة (والتاريخ حافل بالشواهد المعروفة للجميع). ولم يتوقف كل هذا إلاّ مع الزلزال الذي أحدثته الثورة الفرنسية بفكّ عرى التواصل والتحالف ما بين الإقطاع والكنيسة، معتمدة منطق العلم والقوانين الوضعية في تنظيم شؤون الدولة والمجتمع الذي بقي على صلته الروحية بالكنيسة في فضائها المكاني فقط.

بصرف النظر عن جذر مصطلح العلمانية أكان يعود للعالم أو للعلم، وبعيداً عن التعريفات المختلفة للعلمانية والتي باتت معروفة للجميع وإن اختلفوا في ذلك، فإن العلمانية لم تدعُ يوماً للإلحاد، ولم تقف في وجه الدين كصلة روحية ما بين الإنسان ومعتقده وخالقه، بدليل استمرار هذه الصلة في المجتمعات الغربية حتى اللحظة، بل عملت على الارتقاء بحياة المجتمع والحفاظ على حقوق أفراده من خلال قوانين وتشريعات تتناسب مع مستجدات الحياة وتطور وعي المجتمع الذي بات العلم ديدنه ومرجعه ومآل مشاكله المستعصية. هذه هي العلمانية بوضوح وبساطة ارتأيتها بعيداً عن التنظير والإيديولوجيا التي قد ينفر البعض منها.

ولكن، إذا عدنا إلى واقعنا العربي عامة، والإسلامي بخاصة، نجد أن العلمانية قد لاقت الكثير من التشويه والتحريف والاتهامات غير المنطقية وما زالت، كما اتُّهم العلمانيون العرب بالإلحاد والتكفير فقط لأنهم دعوا إلى فصل الدين عن السياسة، وبالتالي عن الدولة، وبقائه في رحاب أماكن العبادة كصلة روحية خاصة ما بين الناس وخالقهم، وكحرية شخصية لا يجوز المساس بها. وما كل هذه الاتهامات إلاّ من ابتكار رجال الدين الذين يخشون فقدان السيطرة على عقول الناس من جهة، وبالتالي فقدان سطوتهم وسلطتهم المدعومة من غالبية الأنظمة السياسية المتحالفة معهم منذ قرون خلت وحتى يومنا هذا، ذلك أنه لا تقوم قائمة لأحدهما بغياب الآخر، فالسياسي كان على الدوام وما زال يسعى إلى استمرار وتدعيم هذا التحالف، لديمومة وجوده وتبرير طغيانه واستبداده تحت ذرائع تتعلّق بالحقوق الدينية وخصوصية المجتمعات الإسلامية واستمرار فرض الفقه الإسلامي مصدراً أساسياً للتشريع في الدساتير التي من المفترض أن تنظم شؤون الدولة والمجتمع، وتساوي بين الجميع في الحقوق والواجبات، في حين يُفرض الدين كشرط أساسي للرئاسة في عموم المجتمعات الاسلامية. في الوقت نفسه، كان هذا السياسي يسعى أيضاً لكسب تأييد التيارات المدنية والعلمانية المُثقفة التي سادت المجتمعات بعد الاستقلال منتصف القرن الماضي، والتي ربما جاء هو من صفوفها، وهنا كانت العلمانية حاضرة في توصيف النظم السياسية الحاكمة التي ما فتئت تضع أو تختار التوصيفات والتحالفات التي تدعم استمرارية بقائها في الحكم زمناً طويلاً، وبهذا تكون الأنظمة السياسية قد مارست وعاشت ازدواجية رهيبة في توصيف ذاتها ما بين الديني والعلماني، في الوقت الذي لم تعمل فيه يوماً على التأسيس لمشروع سياسي ولا لنظام حكم واضح المعالم في توجهاته المطلوبة لتطوير المجتمع والدولة، وهو ما ساهم بشكل أساسي في تشويه العلمانية والإساءة إليها، لاسيما حين تكون كفّة الميزان لدى السياسي راجحة لصالح الديني الذي يدعمه في موقف ما يرفضه العلماني. لا شكّ أن هذا الواقع الذي عاشته الأنظمة السياسية ومعها المجتمعات العربية قد ساهم بشكل أو بآخر فيما وصلت إليه دول المنطقة في العقد الأخير، وما استتبعه من خراب ودمار وفقر ومجاعات جعلت الإنسان العربي ينشد الخلاص لما بقي من إنسانيته المهدورة على أعتاب المصالح الدولية التي استغلت ما جرى فزعزعت ونهبت كيانه ووجوده، وكذلك على أعتاب مطامح الأنظمة الساعية دوماً لتوصيفات تعمل على استمرار بقائها، في اغتيال كامل لوعي الإنسان وفاعليته المطلوبة لتعزيز احترام إنسانيته وحقوقها المشروعة.  

العدد 1102 - 03/4/2024