لن يبقى الظلام مخيِّماً
إيناس ونوس:
لم يكن الفكر الديني مرافقاً للإنسان في نشأته الأولى، لكن جهله بمختلف الظواهر التي كان يراها حوله، وخوفه منها، جعلاه يعزو كل مجهول إلى قوة خفيّة أسماها إلهاً، وتعددت تلك الآلهة مع تعدد الظواهر، وظهرت فكرة التبعية وعبادة تلك الآلهة.. ورويداً رويداً، ومع تجمّع الناس في مجموعات متقاربة وتشكيل اللبنات الأولى للمجتمعات، ظهرت الحاجة إلى فكرٍ يساعد في تنظيم هذه المجتمعات وابتكار القيم التي تساهم في نموها ومن ثم قوننة حياتها، فكان أن نشأ الفكر الديني الذي حُمِّل كلّ ما لا تفسير له ورُدّ إلى الخالق، ومن الأفكار التي جرى العمل بها وعليها فكرة العقاب والثواب من خلال الحياة ما بعد الموت، التي تجسَّدت بفكرة الجنة والنار، فالخالق يحاسب كل إنسان ويصفي أعماله، فتكون نتيجته إما ثواباً فيدخل الجنة، أو عقاباً فيدخل النار، وحُكِم الناس بالدين ورجاله.
ومع مرور الأيام وإعمال العقل بدأ السبب الذي خلق فكرة الرموز والآلهة يتلاشى شيئاً فشيئاً، على مبدأ إن عُرف السبب بَطُل العجب… إلى أن تمكّنت بعض التيارات العلمانية التي تعتمد العقل والعلم لتفسير كل شيء بكسر ذاك الحكم والانتقال إلى مفهوم الدولة المدنية التي لها مقوِّماتها، مع إبقاء العامل الديني كشيء منفصل وشخصي بحت، إلّا أن من لم يعجبه هذا النمط من الحكم لكونه لا يحقّق له مطامحه، استغلَّ عدم قدرة العلم حتى اليوم على تفسير بعض الظواهر المرعبة كالموت، أو الإجابة عن بعض التساؤلات كالحياة ما بعد الموت، إضافةً إلى انحسار المدّ العلماني الذي تمثل بالأحزاب والتيارات اليسارية التي سادت سابقاً، ما أدى إلى التقهقر والتراجع نحو الفكر الديني الذي يعمل على تخليص الإنسان من تأنيب الضمير بأن يلقي كل شيء على عاتق ذاك الخالق، الذي يعطي الأمل بالغد حتى لو كان ذاك الغد هو حياة ما بعد الموت، فتعزَّز التعلُّق بالغيبيات على مختلف أشكالها وأكثرها تلك الرموز الدينية، وتشبث الناس بها. وها هو ذا إنسان اليوم في ظل كل الأهوال التي نحياها يتمسك بها أكثر لكونها تعطيه حالةً من الحماية الجمعية، فالقبيلة تمنح الحماية، والطائفة تعطي الشعور بالأمان المفقود، لذا نرى بكثرة هذا التعلق ظاهراً، وأشد الصور وضوحاً تحوُّل أي حراك مجتمعي من شكله السياسي المدني إلى شكلٍ ديني بلبوسٍ طائفي أو مذهبي.
إلا أنه، بحكم حركة التاريخ غير القابلة للتوقف، سيأتي ذاك اليوم الذي نتمكَّن فيه، مثلما تمكنت بعض دول العالم الأول، من الخروج من بوتقة الفكر الديني واعتماد المدنية والأفكار العلمانية ناظماً أساسياً لتنظيم الحياة المجتمعية، وبالتالي الانتقال إلى نظام حكم مدني يتحقق فيه فصل الدين عن الدولة بكل مقوِّماتها.