سورية بين حضاراتها القديمة، والعروبة والإسلام.. السوريون أمة واحدة حتى النصف الأول من القرن العشرين
سليمان أمين:
سورية ومعناها المحاطة بالأسوار وفق آخر المكتشفات الأثرية ، ووفق ما ذُكرت بأقدم الألواح الطينية المكتشفة، وكلمة سور هي آرامية وبقيت على حالها باللفظ نفسه حتى يومنا هذا، وإذا عدنا إلى كل الحضارات السورية القديمة فهي محاطة بالأسوار وكذلك الحضارات الرافدية، وحرفا (يا) هما تابعة في اللغة الآرامية، كما في كلمة حرستا التي تعني الحارثة ، كما كان اسم (اسوريان) هو الاسم الأقدم للأشوريين.
التاريخ القومي لسورية جزء أساسي من هويتها، إذ تتشكل الهوية القومية على مدى سلسلة من العصور التي مرت على البلاد.. وسورية شهدت تواصلاً تاريخياً بين مختلف العصور، ولم تشهد فترات انقطاع، على الأقل منذ عشرة آلاف سنة، مما يقوّي مسألة الانتماء لدى السوري.
وقد كثر السؤال في السنوات الأخيرة حول موضوع الانتماء والهوية للشعب السوري، بعد الحملات التي شنتها مراكز البحوث الغربية ووسائل الإعلام ضد معطيات التاريخ السوري الحقيقية، وجلّ تلك المراكز تعاطى مع التاريخ السوري وكأنه تاريخ مستقل لكل مجموعة بشرية عاشت على الأرض السورية، مصوِّراً تلك الأرض على شكل (أرض عبور للحضارات) وليست مهداً لتلك الحضارات.
وحتى بداية القرن العشرين، فإن مصطلح سورية الطبيعية أو سورية الكبرى أو الاتحاد السوري (الهلال الخصيب) هو مصطلح كان معروفاً في السياق التاريخي لبلاد الشام، ويدل على وحدة تاريخية في المنطقة الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط والخليج العربي والبحر الأحمر، وتشمل الأراضي التي شكلت سورية الكبرى الأقطار التالية: سورية والأردن ولبنان وفلسطين، إضافة إلى العراق والكويت وجزيرة قبرص، وتشمل سورية الكبرى أيضاً أجزاءً جرى احتلالها من قبل دول مجاورة، مثل لواء إسكندرون (حالياً محافظة هاتاي في تركيا) والأقاليم السورية الشمالية التي احتلتها تركيا بعد معاهدة لوزان، والأحواز في إيران، وشبه جزيرة سيناء في مصر، وجزء من صحراء النفوذ في شمال السعودية.
التقسيم الإداري لسورية في أواخر فترة الاحتلال العثماني:
تشير المراسلات الفرنسية البريطانية التي أدّت إلى اتفاقية (سايكس-بيكو) إلى حدود سورية، وفي النص التالي تعليمات من الرئيس الفرنسي بريان إلى سفيره في لندن بول كامبون والمفاوض الفرنسي فرانسوا جورج بيكو، من الخارجية الفرنسية (في 9 تشرين الأول) 1915 على النحو التالي: (يبدو أن الحل الأبسط يمكن في تثبيت الحدود الإدارية الحالية لسورية. وهكذا، فستشتمل أرضها على ولايات أو متصرفيات القدس وبيروت ولبنان ودمشق وحلب، وفي الشمال الغربي على الجزء الكامل من ولاية أضنة الواقع جنوب طوروس).
سورية الطبيعية:
تضم الأرض السورية كيليكيا والشام وسيناء وقبرص والعراق والأحواز والكويت، وتمتد جنوباً في بادية الشام إلى تبوك وتيماء والجوف. والهلال الخصيب وحدة جغرافية متماسكة ووحدة بشرية مصهورة من الشعب السوري الواحد، منها العرب.. والأرض السورية مهد حضارة البشرية التي تعود للألف العاشرة قبل ميلاد، وتوالت على أرض سورية حضارات السومريين والحثيين والبابليين والآشوريين والكلدانيين والكنعانيين/ الفينقيين والآراميين والسريان والأنباط والعديد من الحضارات السورية القديمة، كما عرفت عصوراً مزدهرة إغريقية ورومانية.. وتعتبر سورية الطبيعية البيئة الجغرافية التي تطوّرت فيها الأمة السورية.
القومية السورية ليست على عداء مع القومية العربية:
القومية السورية ليست على عداء مع العروبة، بل هي مشروع سوري شديد الاعتزاز بالنفس ضمن فضاء العروبة الأوسع.. كانت أبهى عصور سورية العظيمة عندما احتضنت مركز الخلافة الراشدة الرابعة والأخيرة في الكوفة السورية، وكانت دمشق مركز خلافة بني أمية، والأنبار ثم بغداد مركز خلافة بني العباس. وتضم سورية أقدم عاصمة مأهولة في العالم وهي دمشق، كما تضم أكثر الأراضي خصوبة في العالم وهي الأحواز جنوب العراق، وتمتاز بغناها بالنفط والغاز والمعادن والثروة الحيوانية والمياه.
الأقاليم السورية الشمالية وسلخها من قبل الأتراك العثمانيين:
الأقاليم السورية الشمالية هي مناطق من شمال سورية تم سلخها من قبل تركيا بموجب معاهدة لوزان عام 1923 بين تركيا من جهة، وبريطانيا وفرنسا من جهة أخرى، بسبب قوة الدولة التركية في تلك الآونة. جاءت المعاهدة الجديدة كتعديل لمعاهدة سيفر عام 1920 التي أعقبت الحرب العالمية الأولى والتي رسمت حدود تركيا مع جيرانها، واشتملت على خفض كبير لمساحة تركيا مقارنة بأراضي الدولة العثمانية. تضم هذه المناطق من الغرب إلى الشرق مدن ومناطق مرسين وطرسوس وقيليقية وأضنة وعنتاب وكلس ومرعش وأورفة وحران وديار بكر وماردين ونصيبين وجزيرة ابن عمر، ولكن سورية الكبرى تشمل تلك المناطق إضافة إلى جزيرة قبرص، التي تآمرت تركيا واليونان على احتلالها علماً أن تلك الجزيرة كانت ضمن الحكم السوري، ولكن بسبب تآمر الدولتين، وسيطرة تركيا بالقوة على الأقاليم الشمالية في سورية، استطاعت تركيا واليونان احتلال هذه الجزيرة وتغريب السوريين عنها، وما زالت نسبة السوريين في قبرص تتجاوز أربعين بالمئة من السكان، ونسبة استخدام اللغة العربية وصلت في نهاية 2010 إلى 35 بالمئة أو أكثر قليلاً، بالرغم من محاولات الأتراك القضاء على الثقافة السورية المتجذرة هناك، ولكنهم فشلوا في ذلك.
فصل لبنان عن سورية:
دخل الفرنسيون سورية بُعيد الحرب العالمية الأولى، وقاموا بفصل الساحل الطبيعي لدمشق بيروت، وألحقوها بمتصرفية جبل لبنان مما أدّى إلى تقلّص المجال السوري.
سلخ لواء الإسكندرون:
كان لواء الإسكندرون هو المنفذ البحري التاريخي لولاية حلب، وهو مقاطعة سورية تم سلخها من قبل تركيا في 29 تشرين الثاني 1939، إلا أن سورية لم تعترف بذلك أبداً رسمياً.
عام 1921 كان الأتراك يشكلون أقل من 20 في المئة من سكان اللواء، إلا أن السياسة الفرنسية المنحازة للأتراك، والتخطيط القديم لسلخ اللواء لإرضاء الحكم الأتاتوركي، رغبة بالتقليل من خسائر معاهدة سيفر، أدّت إلى سياسة تتريك خلال فترة الانتداب الفرنسي في العشرينات للواء، ومع فصل اللواء حسب قرار عصبة الأمم كان عدد سكان اللواء 220 ألف نسمة، 105 آلاف منهم من العرب، وتوزع الباقون حينها على العرق التركي (85 ألفاً) والكردي (25 ألفاً) والأرمني (5 آلاف). حالياً يسكن الإقليم حوالي مليون نسمة، ولا يوجد أي تعداد للنسبة العربية من سكانه بسبب السياسة التركية القمعية للأقليات القومية.
مسألة العروبة:
العروبة مصطلح لا يعني البداوة، كما يُشاع خطأً من أن العرب هم البدو وسكّان الصحارى فقط، فمدلول كلمة (عرب) ومعناه المعجمي والتاريخي الحضاري هو (الماء الصافي)، وقد وردت هذه الكلمة ومشتقاتها بهذا المعنى في أهم اللهجات القديمات كالعدنانية والأكادية والآرامية والكنعانية الأوغاريتية، وأطلق الآراميون اسم (عربايا) –أي العرب- على مملكتهم وعاصمتها الحضر شمال بغداد، وذلك في الفترة الواقعة ما بين سنة 50 ق.م و235م إبان التدخّل اليوناني والروماني في بلادهم. وبالتالي فمصطلح العروبة لا يشير بمعناه القديم إلى إشكالياته السياسية الحديثة، بل هو أحد الجذور التاريخية والحضارية واللغوية في بلادنا القديمة بمشرقها ومغربها.