صراع الإمبراطوريات في كلمة شي ومقال بايدن
عمرو علان:
تجدر المقارنة بين ما جاء في كلمة الرئيس الصيني شي جين بينغ، التي ألقاها في قمة منظمة شنغهاي العشرين الأخيرة، وما جاء في مقال الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن، الذي أعادت نشره مجلة (فورن أفيرز) والذي حدّد فيه جو بايدن أهم ملامح سياساته، إذا ما انتُخب الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية.
رسم الرئيس شي جين بينغ، في كلمته، صورة عن طبيعة السياسات الخارجية الصينية ومحدّداتها، وكان أهمّها التشديد على فكرة التعدّدية القطبية في إدارة شؤون العالم، تحت مظلّة المنظومة الدولية في مواجهة الأحادية القطبية. وركّزت الكلمة على وجوب دعم جهود الدول لتحقيق أجنداتها المحلّية بما يؤمّن استقرارها السياسي والاجتماعي الداخلي، مع التشديد على رفض تدخّلات القوى الخارجية في الشؤون الداخلية لدول (منظمة شنغهاي) تحت أي ذرائع كانت. وأكد الرئيس الصيني، في كلمته، أنّ الحضارات الإنسانية متكافئة لا أفضلية لإحداها على الأُخرى، وأنّ لكلٍّ منها ما يميّزها، وأكّد كذلك ضرورة تشجيع التعارف فيما بين الحضارات الإنسانية، إضافة إلى تدعيم علاقات حسن الجوار والصداقات فيما بين الدول. وأضاف الرئيس شي جين بينغ أنّ الصين لا يمكنها تحقيق التطوّر بمعزل عن العالم، وأنّ العالم يحتاج إلى الصين لتحقيق الرخاء، داعياً الجميع إلى البناء على حركة النمو الصينية والإفادة منها، ولعلّه استند في دعوته تلك إلى مبادرة (الحزام والطريق) الصينية، وإلى ما وصل إليه حجم الاقتصاد الصيني ومعدّلات نموّه مقارنة باقتصادات دول العالم الأخرى. ولا تختلف هذه المحدّدات التي عرضها الرئيس الصيني، في جوهرها، عمّا جاء عليه البيان الختامي للقمة المنعقدة، الذي يمثّل سياسات دول (منظمة شنغهاي) عموماً.
من جهة أخرى، نجد أنّ الفكرة الأبرز التي وردت في مقال جو بايدن المُشار إليه أعلاه، والذي جاء بعنوان (لماذا يجب على أمريكا أن تقود مجدداً) هي عزمه خلال السنة الأولى من حكمه على عقد قمة دولية، يدعو إليها زعماء تلك الدول التي تعدّها أمريكا ديمقراطيات ودول (العالم الحر). وهذه التصنيفات، بحسب ما بات معروفاً، تعني في القاموس الغربي الدول الاستعمارية في الأصل، وبعض الدول الأخرى التي ترتضي الدوران في الفلك الأمريكي. كذلك، ستتمّ دعوة منظّمات المجتمع المدني إلى تلك القمة، وهذه المنظّمات تعدّ الأداة المفضّلة لدى أجهزة الاستخبارات الغربية والأمريكية، للعبث في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة، وإثارة حالة عدم الاستقرار السياسي. وبحسب المقال، تهدف هذه القمة إلى مواجهة النظم (الأوتوقراطية)، وتدعيم الديمقراطية وترسيخ نشر الأفكار الليبرالية، التي باتت مهدّدة على حدّ قول بايدن. ويضيف المقال أنّ الولايات المتحدة الأمريكية ستأخذ مقعدها الطبيعي على رأس الطاولة لتنظيم شؤون العالم، لأنّ ما دون ذلك يمكن أن يغرق العالم في الفوضى على حدّ زعم بايدن، الذي يتعهّد بالآتي: (كرئيسٍ، سآخذ خطوات فورية لتجديد ديمقراطية الولايات المتحدة الأمريكية وتحالفاتها، وأحمي مستقبل الاقتصاد الأمريكي، وأعيد أمريكا إلى قيادة العالم مجدداً).
يمكن بسهولة ملاحظة النبرة الاستعمارية في لغة مقال بايدن تجاه دول العالم وتجاه ثقافات الأمم الأخرى وحضاراتها، وهي لغة تنسجم مع تاريخ تعامل الإدارات الأمريكية المتعاقبة، والغرب الاستعماري عموماً، مع الآخر. الفرق جليّ بين خطاب مجموعة (منظّمة شنغهاي) الذي يدعو الحضارات البشرية إلى التعارف فيما بينها، وخطابٍ أمريكي غربي يسعى إلى فرض إيديولوجيّته الليبرالية على سائر شعوب الأرض، ولا جديد في هذا. لكنّ اللافت كان في دعوة الرئيس الصيني، في كلمته، الدول الأخرى إلى الاستثمار في الفرص الاقتصادية الصينية، ما سيساعد تلك الدول على تحقيق الرخاء كما قال، بينما انصرف بايدن في مقاله إلى الحديث عن أهمية الإيديولوجيا الليبرالية، وضرورة مواجهة الدول التي لا تعتنق الليبرالية منهجاً، كالصين أو تلك التي عدّها تمثّل تهديداً لليبرالية كروسيا بوتين، من دون أن يتحدّث عن مغريات اقتصادية لتلك الدول التي ستتبنّى الفكر الليبرالي والصيغة الديمقراطية، بالمفهوم الغربي، في إدارة نُظُمِها الاجتماعية والاقتصادية، أو تلك الدول التي ستنضم إلى الولايات المتحدة الأمريكية في ما يشبه الحرب العقدية لنشر الفكر الليبرالي حول العالم. وقال بايدن إنّ الولايات المتحدة مع حلفائها الديمقراطيين، يشكّلون نصف اقتصاد العالم، وإنّ هذا رقم لا يمكن للصين تجاهله، فيما يعدّ تلميحاً إلى العقوبات الاقتصادية. واللافت في هذا، خلوّ الخطاب الأمريكي من الوعود بالرفاه الاقتصادي والرخاء للدول التي تسعى إلى قيادتها في حملتها المزمعة، على خصومها في الصين وروسيا، وعلى تلك الدول الأخرى التي تشقّ عصا الطاعة على الهيمنة الأمريكية. وكان الخطاب الأمريكي يقدّم وعوداً كهذه، إلى جانب الخطاب الإيديولوجي في العقود الماضية، خلال فترة مواجهة المعسكر الاشتراكي والحرب الباردة سابقاً، ولعلّ هذا يعكس حقيقة التراجع في الاقتصاد الأمريكي في هذه الحقبة.
يمكن أن تضيء هذه المقارنة المقتضبة بين خطاب الرئيس الصيني، ومقال جو بايدن، على بعض أوجه الاختلاف بين المرحلة الحالية وبين مرحلة الحرب الباردة إبّان حقبة الاتحاد السوفياتي، ولعلّ هذه المقارنة تساعد في رسم تصوّر لاحتماليات مآلات المواجهة الحاصلة بين أمريكا والصين حالياً. ولكن يظلّ المرجّح أن يهتزّ النهج الليبرالي مع اهتزاز عرش الولايات المتحدة الأمريكية في العالم، ونتيجة لظهور تيارات عالمية قوية تعارض هذا النهج وتعارض دكتاتورية الغرب، التي تحاول فرضه على باقي شعوب الأرض بغضّ النظر عن الموروث الثقافي والحضاري لتلك الشعوب، وكذلك نتيجة لظهور الآثار الهدّامة لهذا النهج على المجتمَعات في ضرب مفهوم الأسرة، وتفكيك المنظومة الأخلاقية للمجتمع في مقابل حرية الفرد المنفلتة من كلّ الضوابط، فضلاً عن استنزاف الموارد الطبيعية لكوكب الأرض، بسبب السياسات الاقتصادية المرتبطة بالنهج الليبرالي ما بات يهدّد الوجود البشري ذاته.
(الأخبار)