أزمة إمدادات الكهرباء في سورية

صفوان داؤد:

في عام 1903 أنيرت العاصمة دمشق لأول مرة بالكهرباء عبر شركة ممولة من المملكة البلجيكية، وكانت دمشق من أولى المدن التي أنيرت في الشرق الأوسط، بعد عشرين عاماً تقريباً تبعتها اللاذقية وأنيرت عام 1922 بتمويل فرنسي، ثم حلب عام 1924 وحمص 1928. وحتى عام 1940 وبرأسمال أجنبي تم ترخيص 6 شركات لإنتاج الكهرباء. وفي عام 1950 كان هناك 18 شركة وطنية مساهِمة دخلت في استجرار الكهرباء إلى السوق المحلية. في عام 1951 جرى تأميم شركات الكهرباء الأجنبية، وفي عام 1974 أُحدثت وزارة الكهرباء بموجب المرسوم التشريعي رقم 94 لعام 1974 بعد فصلها ادارياً عن وزارة النفط والثروة المعدنية. منذ ذلك التاريخ أخذت الحكومات السورية المتعاقبة على عاتقها توفير الشبكة الكهربائية وتوسيع على كامل الأراضي السورية. وفي عام 2010 بلغ عدد محطات توليد الطاقة الكهربائية الرئيسية 11 محطة أهمها سد البعث في الرقة، بسعة إنتاج 81 ميغا واط، وسد الطبقة بسعة إنتاج 800 ميغا واط. ومحطة جندر بسعة إنتاج 1100 ميغاواط، ومحطة ديرعلي بسعة إنتاج 750 ميغاواط. ومحطة حلب أكبر محطة حرارية في سورية بسعة إنتاج 1200 ميغاواط (خارج الخدمة حالياً). ومثلها كذلك محطتا الزارة وزينون. وسجل عام 2010 ذروة القدرة الإنتاجية لسورية عند الرقم 9530.5 ميغاواط منها 300 إلى400 ميغاواط كانت تُصدّر إلى لبنان.

لكن منذ اندلاع الحرب السورية عام 2011 تعرضت البنية التحتية لهذا القطاع لأضرار كبيرة وهائلة، وترافق مع ضعف توريدات الطاقة اللازمة لإنتاج الكهرباء، وانخفضت عامي 2014 و 2015 إلى 1200 ميغاواط، ثم عادت ترتفع قليلاً منذ عام 2017 لكنها لم تصل قطّ إلى سوية عام 2010. هكذا ومنذ ما يقارب العقد يدخل السوريون كل فصل شتاء ضمن برامج تقنين جائر وأعطال بالجملة تتسبب بانقطاع التيار الكهربائي لأوقات طويلة، ولم يختلف هذا العام عن الأعوام السابقة. فهل الحديث عن عودة استجرار الكهرباء من القطاع الخاص عبر الترخيص للأمبيرات وغيرها من الاقتراحات التي لم يُعلن عنها بعد، والتي ماتزال ضمن نسق الشائعات والتخمينات هو الحل، بعد هذا التاريخ الطويل من دور الدولة في تأمين هذا المنتج الأكثر أهمية في العصر الحالي.

تقول وزارة الكهرباء إن هناك صعوبات كبيرة في تأمين الفيول والغاز اللازم لتشغيل محطات توليد الطاقة الكهربائية، وقال مدير التنسيق بالمؤسسة العامة لنقل وتوزيع الكهرباء لوكالة سانا الرسمية إن الوزارة وضعت قاعدة بيانات لأماكن الخلل والفصولات المتوقعة، بالتنسيق بين المؤسسة العامة لنقل وتوزيع الكهرباء والمؤسسة العامة للتوليد، وتقوم الأخيرة بصيانة المحطات ورفع كفاءتها لتكون جاهزة لتلبية الحاجة المتزايدة.

لكن هذه التطمينات لن يعود لها قيمة بعد تصريح وزير الكهرباء الأسبوع الفائت أمام مجلس الشعب بأن حاجة المحطات الكهربائية في سورية لتأمين حاجة السوق تبلغ 18 مليون متر مكعب من الغاز و 10 آلاف طن من الفيول، في حين أن وزارة النفط لا تورّد سوى 9 إلى 10 ملايين متر مكعب، وما بين 5 إلى 6 آلاف طن يومياً. واعترف الوزير صراحة أن موسم الشتاء هذا (لن يكون مريحاً). وقال أيضاً إن الوزارة تعاني من تحصيل ديونها التي بلغت 87،4 مليار ليرة للقطاع الخاص و309 مليارات للقطاع العام، وهذا يؤثر بشدة على تطوير البنية التحتية لإنتاج الطاقة وزيادة عدد محطات توليد وإنتاج الكهرباء، وتقدر حاجة البلاد من الكهرباء بنحو 7000 ميغا واط فيما لا يمكن توليد سوى 2500 ميغا واط وفقاً للإمكانات المتاحة. وفي ظل هذه الظروف الصعبة لإنتاج ما يكفي من حاجة السوق السوري المتعطشة للكهرباء هل تسعى الحكومة إلى تخصيص هذا القطاع؟ أم تخفيض الدعم عنه كما حصل خلال الأشهر الماضية على البنزين والمازوت والخبز؟

بعيداً عن تصريحات النفي القاطعة لمسؤولين كبار منهم وزير الكهرباء شخصياً عن عدم احتمالية التخصيص فإنه إذا اخذنا توجه الحكومة الحالية أو بالأحرى استراتيجيتها الأساسية، وهي تخفيف الأزمة المالية الخانقة عبر زيادة الضرائب والتخلي عن سياسات الدعم الحكومي، فلن يكون من المستغرب أن يكون الهدف القادم لها لتحصيل الأموال هو قطاع الكهرباء. قبل الأزمة كانت تكلفة إنتاج الكهرباء 5 ليرات/ كيلو واط ساعي أو ما يعادل 0.1 دولار، وسعر الكيلو واط الساعي للشريحة الأولى (الاستهلاك المنزلي) نصف ليرة او ما يعادل 0.011 دولار. في عام 2016 وسعر صرف الليرة حينذاك كان لا يتجاوز 600 ليرة، تم رفع تسعيرة الكهرباء للاستهلاك المنزلي بقرار مجلس الوزراء إلى 1 ليرة للكيلو واط الساعي للشريحة الاولى أو ما يعادل 0.001 دولار. ويعتبر هذا السعر هو الأرخص عالمياً بعد فنزويلا. الآن وفق التضخم المتزايد يوماً بعد يوم تتلاشى تسعيرة الكهرباء، ما يرتّب على الخزينة السورية عجزاً هائلاً من هذا القطاع، بلغ في عام 2019 نحو 711 مليار ليرة (حوالي 570 مليون دولار)، وهو رقم مأهول مقارنة بالميزانية العامة التي بلغت نحو 8.9 مليار دولار.

إذا قررت الحكومة عدم تحمل هذا العجز للعام القادم فهي أمام خيارين؛ إما رفع سعر الكيلو واط ساعي وفق سعر الصرف الحقيقي والتخلي عن الدعم، وإما خصخصة قطاع الكهرباء وعلى الأغلب وكما جرت العادة تتجه الخصخصة لصالح شركات إيرانية أو روسية. وفي كلتا الحالتين سيكون الوضع كارثياً على المواطنين.

وكان قد ذكر السيد ميزينتسيف (مدير مركز الوطني لإدارة الدفاع الروسية) خلال مؤتمر عودة اللاجئين الذي عقد مؤخراً في دمشق، أن موسكو تعهدت بتقديم مليار دولار من أجل (ترميم الشبكات الكهربائية والمجمعات الصناعية ومشاريع إنسانية أخرى في سورية)، وهو إعلان أقل ما يقال عنه إنه في إطار المنافسة مع إيران على كعكة الطاقة السورية. وكانت إيران قد وقعت عدداً من الاتفاقيات مع الحكومة السورية أهمها عبر شركة (مبنا غروب) الإيرانية لتوريد 5 مجموعات توليد عاملة على الغاز والمازوت لمحطة حلب الحرارية باستطاعة 125 ميغاواط، وعقد إعادة تأهيل العنفات الغازية لمحطة بانياس باستطاعة 38 ميغاواط، وتنفيذ مجموعتين بخاريتين ضمنها تعملان على الغاز والفيول باستطاعة إجمالية 650 ميغاواط. إضافة إلى تنفيذ مشروع محطة اللاذقية الحرارية باستطاعة 508 ميغاواط. وكانت وزارة الكهرباء قد وقّعت سابقاً اتفاقيات مع الجانب الروسي لتنفيذ محطة توليد كهرباء بدير الزور، وعقداً لإعادة تأهيل محطة حلب الحرارية، وتوريد أربع مجموعات بخارية باستطاعة 1200 ميغاواط لمحطتي محردة وتشرين.

خصخصة قطاع الكهرباء أمر يجب ألّا يحصل تحت أي مبرر. في حال دخل التجار أو القطاع الخاص في تجارة الطاقة الكهربائية سيزداد الوضع سوءاً، وإذا افترضنا أن سعر المبيع في السوق المحلية سيوازي سعره في الدول الجوار، لبنان مثلاً، فإن سعر الكيلو واط الساعي سيرتفع على الأقل إلى 100 إلى 120 ضعفاً (سعر الكيلوواط الساعي في لبنان وتركيا يبلغ 0.08 وفي الأردن 0.11) ونحو 40 ضعفاً مقارنة بالعراق (سعر الكيلوواط الساعي في العراق يبلغ 0.03).

إن مثل هذه الزيادات غير ممكن استيعابها، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنها تأتي كنسق عام لتوجه الحكومة نحو استنزاف الشرائح الأكثر فقراً في سورية. هذا يضعنا أمام واقع لابد من مواجهته، إن لم يكن الآن فهو آتٍ لا محالة. الواقع الذي يطرح أسئلة عميقة حول ماذا يحصل للاقتصاد السوري؟ وهل هو فعلاً اقتصاد؟ وعن ماهية المؤسسات في سورية ودورها، وما هو العائد المرجو منها للمواطنين؟ وهل هم يستحقون هذا الوضع؟ وهل هم ملزمون أن يدفعوا كل هذه الأثمان؟ وما هو المستقبل بالنسبة لهم؟! كل هذه الأسئلة تحيلنا إلى حقيقة واحدة وهي حضور وانكشاف الخلل العميق في بنية الدولة، في خطابها وفي أساليب وتوجهات إداراتها، في لا إيمانها بمواطنيها وقيمتهم.

يجب ألا تنحصر الأسئلة كما الحلول عند طرف واحد. البلاد في أزمات خانقة لا تنتهي، وإن إنقاذها وتحسين أوضاع شعبها لن يتحقق إلا بعقد سياسي جديد تشارك فيه جميع النخب، في القرار السياسي كما الاقتصادي، مشاركة قائمة على المساءلة والشفافية والإيمان بقيمة الإنسان.

العدد 1102 - 03/4/2024