حكم عام.. والمجرم أنثى

غزل حسين المصطفى:


المشهد الأوّل:
فتاة مررتُ بها يوماً في مكان ما، دخلتُ وألقيتُ التَّحية، ثم جلستُ ووجهتُ نظري نحوها وكنتُ أخالها صبياً، بكلِّ حسن نية قلت:(كيف حالُكَ؟!)، فأتى ردّها: (أنا.. كيفَ حالُكِ؟!).
ادّعيتُ حينئذٍ أنني قد نسيتُ نظارتي الطبّيّة وأنني من غيرها لا أستطيع الرُّؤية جيداً، كما أنَّ الزكام أخذ مني تركيزي.
تلك الملامح الأنثويّة التّي سحقتها الحياة استجرّتني فيما بعد لأجلس بجانبها وأسألها عن تفاصيل حياتها، وطبعاً بأسلوب (الدردشة، والتعارف المتبادل).
كان اسمها رجاها (وعلمتُ فيما بعد أنَّهُ الاسم المستعار الذي تتخذه) قد قصَّ لها والدها شعرها قبل أن يطردها خارج المنزل، فانتقلت من محافظتها إلى دمشق خالية الوفاض، لا تحمل إلاّ ملابسَ كانت ترتديها.
من غير أن تبوح، كانت بعض التَّفاصيل المبعثرة في حديثها قد أرشدتني إلى حقيقة الحكاية، إذ قالت: (من الصحيح أنني أشحذ، ولكن لا أقبل أن يلمسني أحد، لأن (فطمة) قالت لي يوماً إنني فتاة وهذا غير مقبول، فعلت كما قالت ولكن خسرت شعري…).

مسحت دمعتها بضحكة كاذبة وقامت تمشي نحو أقرانها.
تعجبتُ من مشيتها، قلت لصديقتي: كأنه كُساح أو ما شابه، وكانت الإجابة هي الصّاعقة الكبرى بحق وجداني، لا يا غزل، هذا ليس كُساح، غالب الظن تبعاً للعلامات الظاهرة هذا خلل في عظام الحوض نتيجةً لاغتصاب سابق مُتكرّر في طفولتها، حين كان عظمها غضّاً طريّاً.
المشهد الثاني:
حين استعرض برنامج ما حالة فتاة هربت من منزل والدها نتيجة للمعاملة اللاإنسانيّة تجاهها، فرّت وأصبحت طفلة مُباحة في شوارع دمشق، ساقها أحدهم نحو المخدرات والمشروب، ثمّ استغلّها وتاجر بها.
بكل بساطة قالت للمذيعة: (ما عندي حلّ، وما كنت بعرف شو عم يصير، عادي… تعودت، بشرب وبروح، ما بحسّ بشي). وفي جملةٍ اعتراضيةٍ أخرى قالت: (بقرف حالي، بسّ ما عم إقدر موت).. وضحكت.
حديثٌ ينطق به لسان طفلة في عامها الخامس عشر.

هذا ما استحضره عقلي، عندما قرأت السؤال الذي طرحناه في صفحة (شباب ومجتمع) لهذا العدد.
نص السؤال: (…نوّد تسليط الضوء على ظاهرة الدعارة التي انتشرت وبشكل فاقع منذ ما قبل الحرب، لكنها طفت على سطح معاناة النساء في ظل تلك الحرب وتبعاتها… فهل المرأة بطبعها سيئة، أم أن الظروف هي من تجعل منها داعرة حين لا تجد ما يسدُّ رمق جوعها ومن حولها؟)
 لم يتكلف عناء التفكير أو البحث عن (رأس الخيط) ربما كلُّ شيء واضح.

بدايةً، أن تُتاجر المرأة بنفسها تحت أيّة ذريعة أمرٌ غير مقبول في منطقي أبداً، دائماً ما أقول إن أعمالاً أخرى على مشقّتها هي بديل، وجودها يدحض حجّة (لقمة العيش). تلك الصنديدة التي تجرُّ عربة خضار في سوق الهال، وأخرى تُقطّع الخضار وتجهّزها، وغيرهن كُثر، فالغاية لا تُبرّر الوسيلة أبداً.
لا يمكن نكران استحالة التغلّب على الظروف أحياناً، وكون فرصة العمل معجزة، وأن رجالاً أشداء قد سقطوا أمام الظروف الاقتصاديّة والمعيشيّة الّتي تعتصرنا، كما لا يمكن أن نغضّ الطّرف عن مجتمعٍ يُحب الرذيلة، والأمر ليس مستحدثاً، فقد كانت الأمور تجري في الخفاء ومن تحت الطاولة، لكنها باتت اليوم علنيّة وبكل بساطة.
قد تُحاصر المرأة من كلّ الجهات ولا يُترك لها خيار، لكن ذلك ليس مبرراً (برأيي).
وكُثُر ممّن لا ينقصهنَّ من المال والعزّ شيء، وربما كنَّ متزوجات، لكنهن يمشين في ذلك الطريق.
والحالات الّتي ذكرتها آنفاً في بداية حديثي لا ينطبق عليها الحكم، لكن استحضرتها لنرى الشقّ الآخر للموضوع، حين يكون المجتمع هو المُصنِّع أو البيئة الحاضنة والفاعل، حتّى لا تُلام الأنثى وتُجرّم بحكم مُسبق الصنع.
ختاماً، ربما بهذا أكون قد أجبت بطريقةٍ غير مباشرة على سؤال الملفّ المطروح من غير صفّ كلامٍ مُزخرف مُنمّق قد يرميه أحدهم بتهمة الفلسفة والتنظير، أنا اليوم أجبتُ من صلب واقعٍ رأيته فعلياً ورأيٍ شخصيٍّ أتبنّاه بشدّة.

العدد 1102 - 03/4/2024